مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٢٨
بين أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي ولا بدليل نقلي، ثم بيّن أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف، وإنما ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل، ومما يدل عليه أيضا من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق وذلك لأنه كم حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة فلو كان التقليد طريقا إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقا ومعلوم أن ذلك باطل.
المسألة الثالثة : أنه تعالى بين أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه، إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا وحب الكسل والبطالة وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال لقوله إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق، وإذا عرفت هذا علمت أن رأس جميع الآفات حب الدنيا واللذات الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب اللّه والدار الآخرة، فلهذا
قال عليه السلام :«حب الدنيا رأس كل خطيئة».
ثم قال تعالى لرسوله : قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أي بدين أهدى من دين آبائكم فعند هذا حكى اللّه عنهم أنهم قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما / هو أهدى فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وإن كان أهدى مما كنا عليه، فعند هذا لم يبق لهم عذر ولا علة، فلهذا قال تعالى :
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ والمراد منه تهديد الكفار واللّه أعلم.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ إلى ٣٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار داع يدعوهم إلى تلك الأقاويل الباطلة إلا تقليد الآباء والأسلاف، ثم بين أنه طريق باطل ومنهج فاسد، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من الاعتماد على التقليد، أردفه بهذه الآية والمقصود منها ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد وتقريره من وجهين :
الأول : أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تبرأ عن دين آبائه بناء على الدليل فنقول : إما أن يكون تقليد الآباء في الأديان محرما أو جائزا، فإن كان محرما فقد بطل القول بالتقليد، وإن كان جائزا فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه السلام، وذلك لأنهم ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده، وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء، وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول إنه ترك دين الآباء، وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء، وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء ووجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد، وإذا ثبت هذا فنقول : فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا، فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلا، فهذا طريق رقيق في إبطال التقليد وهو المراد بهذه الآية.