مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٣٢
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه تعالى إنما لم يعط الناس نعم الدنيا، لأجل أنه لو فعل بهم ذلك لدعاهم ذلك إلى الكفر، فهو تعالى لم يفعل بهم ذلك لأجل أن لا يدعوهم إلى الكفر، وهذا يدل على أحكام أحدها : أنه إذا لم يفعل بهم ما يدعوهم إلى الكفر فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى وثانيها : أنه ثبت أن فعل اللطف قائم مقام إزاحة العذر والعلة، فلما بين تعالى أنه لم يفعل ذلك إزاحة للعذر والعلة عنهم، دل ذلك على أنه يجب أن يفعل بهم كل ما كان لطفا داعيا لهم إلى الإيمان، فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أنه يجب على اللّه تعالى فعل اللطف وثالثها : أنه ثبت بهذه الآية، أن اللّه تعالى إنما يفعل ما يفعله ويترك ما يتركه لأجل حكمة ومصلحة، وذلك يدل على تعليل أحكام اللّه تعالى وأفعاله بالمصالح والعلل، فإن قيل لما بيّن تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم، لصار ذلك سببا لاجتماع الناس على الكفر، فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سببا لاجتماع الناس على الإسلام؟ قلنا لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا، وهذا الإيمان إيمان المنافقين، فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين، حتى أن كل من دخل الإسلام، فإنما يدخل فيه لمتابعة الدليل ولطلب رضوان اللّه تعالى، فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب.
ثم قال تعالى : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ والمراد منه التنبيه على آفات الدنيا، وذلك أن من فار بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر اللّه، ومن صار كذلك صار من جلساء الشياطين الضالين المضلين، فهذا وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، قال صاحب «الكشاف» : قرئ وَمَنْ يَعْشُ بضم الشين وفتحها، والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل عشي، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به، قيل عشى ونظيره عرج لمن به الآفة، وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج، قال الحطيئة :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
أي تنظر إليها نظر العشي، لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء، وقرئ يعشو على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط، وحق هذا القارئ أن يرفع نُقَيِّضْ ومعنى القراءة بالفتح، ومن يعم عن ذكر الرحمن وهو القرآن، لقوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة : ١٨] وأما القراءة بالضم فمعناها ومن يتعام عن ذكره، أي يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتعامى، كقوله تعالى : وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل :
١٤]، ونُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً قال مقاتل : نضم إليه شيطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.
ثم قال : وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى والحق وذكر الكناية عن الإنسان والشياطين بلفظ الجمع، لأن قوله وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً يفيد الجمع، وإن كان اللفظ على الواحد وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يعني الشياطين يصدون الكفار عن السبيل، والكفار يحسبون أنهم مهتدون، ثم عاد إلى لفظ الواحد، فقال : حَتَّى إِذا / جاءَنا يعني الكافر، وقرئ (جاءانا)، يعني الكافر وشيطانه،
روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده، فلم يفارقه حتى يصيرهما اللّه إلى النار،
فذلك حيث يقول يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ والمراد يا ليت حصل بيني وبينك بعد على أعظم الوجوه، واختلفوا في تفسير قوله بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ وذكروا فيه وجوها الأول : قال


الصفحة التالية
Icon