مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٣٩
[الزخرف : ٢٠] ورابعها : قوله وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : ٣١] وخامسها : هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها، ولفظ الآية لا يدل إلا على أنه لما ضرب ابن مريم مثلا أخذ القوم يضجون ويرفعون أصواتهم، فأما أن ذلك المثل كيف كان، وفي أي شيء كان فاللفظ لا يدل عليه والمفسرون ذكروا فيه وجوها كلها محتملة فالأول : أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون / عيسى قالوا إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة الثاني :
روي أنه لما نزل قوله تعالى : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء : ٩٨] قال عبد اللّه بن الزبعرى هذا خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال صلى اللّه عليه وسلّم :«بل لجميع الأمم» فقال خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيرا وعلى أمه، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما واليهود يعبدون عزيرا والملائكة يعبدون، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم «١» فسكت النبي صلى اللّه عليه وسلّم وفرح القوم وضحكوا وضجوا، فأنزل اللّه تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء : ١٠١]
ونزلت هذه الآية أيضا والمعنى، ولما ضرب عبد اللّه بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا وجادل رسول اللّه بعبادة النصارى إياه إذا قومك قريش منه أي من هذا المثل يصدون أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحا وجدلا وضحكا بسبب ما رأوا من إسكات رسول اللّه فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقالوا أآلهتنا خير أم هو يعنون أن آلهتنا عندك ليس خيرا من عيسى فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون الوجه الثالث : في التأويل وهو أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلها لأنفسهم، قال كفار مكة إن محمدا يريد أن يجعل لنا إلها كما جعل النصارى المسيح إلها لأنفسهم، ثم عند هذا قالوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعني أآلهتنا خير أم محمد، وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا : إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه، وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام، وإذا كان لا بد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى، لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه، وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى، ثم إنه تعالى بيّن أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن بل هو كلام باطل، فإن عيسى ليس إلا عبدا أنعمنا عليه، فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم : إن محمدا يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه، فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية.
المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم
يصدون بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام
والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس، واختلفوا فقال الكسائي هما بمعنى نحو يعرشون ويعرشون ويعكفون، ومنهم من فرق، أما القراءة بالضم فمن الصدود، أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه، وأما بالكسر فمعناه يضجون.
المسألة الثالثة : قرأ عاصم وحمزة والكسائي أآلهتنا استفهاما بهمزتين الثانية مطولة والباقون استفهاما بهمزة ومدة.

(١)
الرواية المشهورة : أن الرسول صلى اللّه عليه وسلّم رد عليه عند ذلك بقوله لابن الزبعرى «ما أجهلك بلغة قومك ما لما لا يعقل»،
وحينئذ فلا تقع على الذين اتخذهم الكفار آلهة من الأنبياء والملائكة والصالحين وإنما عنى من الأصنام التي عبدوها.


الصفحة التالية
Icon