مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٤٤
إنما وقع بقدرة اللّه مع قدرة العبد معا، فلم يكن ذلك ظلما من اللّه. قلنا : عندكم أن القدرة على الظلم موجبة للظلم، وخالق تلك القدرة هو اللّه تعالى، فكأنه تعالى لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج عن أن يكون ظالما لهم، وذلك محال لأن من يكون ظالما في فعل، فإذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون بذلك أحق، فيقال للقاضي قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعينة لأحد الطرفين؟ فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إن وقع لا لمرجح لزم نفي الصانع، وإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم الأول فيه، ولا بد وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها اللّه في العبد. وإن كانت متعينة لأحد الطرفين فحينئذ يلزمك ما أوردته علينا.
واعلم أنه ليس الرجل من يرى وجه الاستدلال فيذكره، إنما الرجل الذي ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده، فإن رآه واردا على مذهبه بعينه لم يذكره واللّه أعلم.
المسألة الرابعة : قرأ ابن مسعود يا مال بحذف الكاف للترخيم فقيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ ونادوا يا مال فقال : ما أشغل أهل النار عن هذا الترخيم! وأجيب عنه بأنه إنما حسن هذا الترخيم لأنه يدل على أنهم بلغوا في الضعف والنحافة إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها.
المسألة الخامسة : اختلفوا في أن قولهم يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ على أي وجه طلبوا فقال بعضهم على التمني، وقال آخرون على وجه الاستغاثة، وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب، وقيل لا يبعد أن يقال إنهم لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا تلك المسألة فذكروه على وجه الطلب. ثم إنه تعالى بيّن أن مالكا يقول لهم إِنَّكُمْ ماكِثُونَ وليس في القرآن متى أجابهم، هل أجابهم في الحال أو بمدة طويلة، وإن كان بعد ذلك فهل حصل ذلك الجواب بعد ذلك السؤال بمدة قليلة أو بمدة طويلة، فلا يمتنع أن تؤخر الإجابة استخفافا بهم وزيادة في غمهم، فعن عبد اللّه بن عمر بعد أربعين سنة، وعن غيره بعد مائة سنة، وعن ابن عباس بعد ألف سنة واللّه أعلم بذلك المقدار.
ثم بيّن تعالى أن مالكا لما أجابهم بقوله إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ذكر بعده ما هو كالعلة لذلك الجواب فقال :
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ والمراد نفرتهم عن محمد وعن القرآن وشدة بغضهم لقبول الدين الحق، فإن قيل كيف قال : وَنادَوْا يا مالِكُ بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلنا تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتا لشدة ما بهم،
روي أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم / فيه من العذاب، فيقولون ادعوا مالكا فيدعون يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ
ولما ذكر اللّه تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال : أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ والمعنى أم أبرموا أي مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول اللّه، فإنا مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى : أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور : ٤٢] قال مقاتل :
نزلت في تدبيرهم في المكر به في دار الندوة، وهو ما ذكره اللّه تعالى في قوله تعالى : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال : ٣٠] وقد ذكرنا القصة.
ثم قال : أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم بَلى نسمعها ونطلع عليها وَرُسُلُنا يريد الحفظة يَكْتُبُونَ عليهم تلك الأحوال، وعن يحيى بن معاذ من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد


الصفحة التالية
Icon