مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٥٩
اعلم أنه تعالى لما بين أن كفار مكة مصرون على كفرهم، بين أن كثيرا من المتقدمين أيضا كانوا كذلك، فبيّن حصول هذه الصفة في أكثر قوم فرعون، قال صاحب «الكشاف» : قرئ، وَلَقَدْ فَتَنَّا بالتشديد للتأكيد قال ابن عباس ابتلينا، وقال الزجاج بلونا، والمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ وهو موسى واختلفوا في معنى الكريم هاهنا فقال الكلبي كريم على ربه يعني أنه استحق على ربه أنواعا كثيرة من الإكرام، وقال مقاتل حسن الخلق وقال الفرّاء يقال فلان كريم قومه لأنه قل ما بعث رسول إلا من أشراف قومه وكرامهم.
ثم قال : أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ وفي أن قولان : الأول : أنها أن المفسرة وذلك لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه الثاني : أنها المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدواء، وعباد الله مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول أدوهم إليّ وأرسلوهم معي وهو كقوله فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه : ٤٧] ويجوز أيضا أن يكون نداء لهم والتقدير :
أدوا إلى عباد اللّه ما هو واجب عليكم من الإيمان، وقبول دعوتي، واتباع سبيلي، وعلل ذلك بأنه رَسُولٌ أَمِينٌ قد ائتمنه اللّه على وحيه ورسالته وأن لا تعلوا أن هذه مثل الأول في وجهيها أي لا تتكبروا على اللّه بإهانة وحيه ورسوله إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة بينة يعترف بصحتها كل عاقل وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ قيل المراد أن تقتلون وقيل أَنْ تَرْجُمُونِ بالقول فتقولوا ساحر كذاب وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا باللّه لأجل ما أتيتكم به من الحجة، فاللام في لي لام الأجل فَاعْتَزِلُونِ أي أخلوا سبيلي لا لي ولا علي.
قال مصنف الكتاب رحمه اللّه تعالى : إن المعتزلة يتصلفون ويقولون إن لفظ الاعتزال أينما / جاء في القرآن كان المراد منه الاعتزال عن الباطل لا عن الحق، فاتفق حضوري في بعض المحافل، وذكر بعضهم هذا الكلام فأوردت عليه هذه الآية، وقلت المراد الاعتزال في هذه الآية الاعتزال عن دين موسى عليه السلام وطريقته وذلك لا شك أنه اعتزال عن الحق فانقطع الرجل.
ثم قال تعالى : فَدَعا رَبَّهُ الفاء في فدعا تدل على أنه متصل بمحذوف قبله التأويل أنهم كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قوم مجرمون، فإن قالوا الكفر أعظم حال من الجرم، فما السبب في أن جعل صفة الكفار كونهم مجرمين حال ما أراد المبالغة في ذمهم؟ قلت لأن الكافر قد يكون عدلا في دينه وقد يكون مجرما في دينه وقد يكون فاسقا في دينه فيكون أخس الناس، قال صاحب «الكشاف» : قرئ (إن هؤلاء) بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال : إن هؤلاء قوم مجرمون.
ثم قال : فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا قرأ ابن كثير ونافع فأسر موصولة الألف والباقون مقطوعة الألف سرى وأسرى لغتان أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون، أي يتبعكم فرعون وقومه ذلك سببا لهلاكهم وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً وفي الرهو قولان أحدهما : أنه الساكن يقال عيش راه إذا كان خافضا وادعا، وافعل ذلك سهوا رهوا أي ساكنا بغير تشدد، أراد موسى عليه السلام لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما كان فأمره اللّه تعالى بأن يتركه ساكنا على هيئته قارا على حاله في انفلاق الماء وبقاء الطريق يبسا حتى تدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه اللّه عليهم والثاني : أن الرهو هو الفرجة الواسعة، والمعنى ذا رهو أي ذا فرجة يعني


الصفحة التالية
Icon