مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٦١
اعلم أنه تعالى لما بيّن كيفية إهلاك فرعون وقومه بيّن كيفية إحسانه إلى موسى وقومه. واعلم أن دفع الضرر مقدم على إيصال النفع فبدأ تعالى ببيان دفع الضرر عنهم فقال : وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة.
ثم قال : مِنْ فِرْعَوْنَ وفيه وجهان : الأول : أن يكون التقدير من العذاب المهين الصادر من فرعون الثاني : أن يكون فرعون بدلا من العذاب المهين كأنه في نفسه كان عذابا مهينا لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم.
قال صاحب «الكشاف» : وقرئ من عذاب المهين وعلى هذه القراءة (فالمهين) هو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين. وفي قراءة ابن عباس مِنْ فِرْعَوْنَ وهو بمعنى الاستفهام وقوله إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ جوابه كأن التقدير أن يقال هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته؟ ثم عرف حاله بقوله إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين، ويجوز أن يكون المراد إِنَّهُ كانَ عالِياً لقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص : ٤] وكان أيضا مسرفا ومن إسرافه أنه على حقارته وخسته ادعى الإلهية.
ولما بيّن اللّه تعالى أنه كيف دفع الضرر عن بني إسرائيل وبيّن أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال : وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ وفيه بحثان :
البحث الأول : أن قوله عَلى عِلْمٍ في موضع الحال ثم فيه وجهان : أحدهما : أي عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم والثاني : أن يكون المعنى مع علمنا بأنهم قد يزيغون ويصدر عنهم الفرطات في بعض الأحوال.
البحث الثاني : ظاهر قوله وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين فقيل المراد على عالمي زمانهم، وقيل هذا عام دخله التخصيص كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران : ١١٠].
ثم قال تعالى : وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغيرها من الآيات القاهرة التي ما أظهر اللّه مثلها على أحد سواهم بَلؤُا مُبِينٌ أي نعمة ظاهرة، لأنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو أيضا بالنعمة اختبارا ظاهرا ليتميز الصديق عن الزنديق، وهاهنا آخر الكلام في قصة موسى عليه السلام ثم رجع إلى ذكر كفار مكة، وذلك لأن الكلام فيهم حيث قال : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أي بل


الصفحة التالية
Icon