مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٦٧
يحصل بتفضل اللّه، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الثواب يحصل تفضلا من اللّه تعالى لا بطريق الاستحقاق لأنه تعالى لما عدد أقسام ثواب المتقين بين أنها بأسرها إنما حصلت على سبيل الفضل والإحسان من اللّه تعالى، قال القاضي أكثر هذه الأشياء وإن كانوا قد استحقوه بعملهم فهو بفضل اللّه لأنه تعالى تفضل بالتكليف، وغرضه منه أن يصيرهم إلى هذه المنزلة فهو / كمن أعطى غيره مالا ليصل به إلى ملك ضيعة، فإنه يقال في تلك الضيعة إنها من فضله، قلنا مذهبك أن هذا الثواب حق لازم على اللّه، وإنه تعالى لو أخل به لصار سفيها ولخرج به عن الإلهية فكيف يمكن وصف مثل هذا الشيء بأنه فضل من اللّه تعالى؟.
ثم قال تعالى : ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق، فإنه تعالى وصفه بكونه فضلا من اللّه ثم وصف الفضل من اللّه بكونه فوزا عظيما، ويدل عليه أيضا أن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالا من إعطاء تلك الأجرة، ولما بين اللّه تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال : فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمعنى أنه تعالى وصف القرآن في أول هذه السورة بكونه كتابا مبينا أي كثير البيان والفائدة وذكر في خاتمتها ما يؤكد ذلك فقال : إن ذلك الكتاب المبين، الكثير الفائدة إنما يسرناه بلسانك، أي إنما أنزلناه عربيا بلغتك، لعلّهم يتذكرون، قال القاضي وهذا يدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والمعرفة وأنه ما أراد من أحد الكفر وأجاب أصحابنا أن الضمير في قوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عائد إلى أقوام مخصوصين فنحن نحمل ذلك على المؤمنين.
ثم قال : فَارْتَقِبْ أي فانتظر ما يحل بهم إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ما يحل بك، متربصون بك الدوائر واللّه أعلم.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى : تمّ تفسير هذه السورة ليلة الثلاثاء في نصف الليل الثاني عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة، يا دائم المعروف، يا قديم الإحسان، شهد لك إشراق العرش، وضوء الكرسي، ومعارج السموات، وأنوار الثوابت والسيارات، على منابرها، المتوغلة في العلو الأعلى، ومعارجها المقدسة عن غبار عالم الكون والفساد، بأن الأول الحق الأزلي، لا يناسبه شيء من علائق العقول، وشوائب الخواطر، ومناسبات المحدثات، فالقمر بسبب محوه مقر بالنقصان، والشمس بشهادة المعارج بتغيراتها، معترفة بالحاجة إلى تدبير الرحمن، والطبائع مقهورة تحت القدرة القاهرة، فاللّه في غيبيات المعارج العالية، والمتغيرات شاهدة بعدم تغيره، والمتعاقبات ناطقة بدوام سرمديته، وكل ما نوجه عليه أنه مضى وسيأتي فهو خالقه وأعلى منه، فبجوده الوجود وإيجاد، وبإعدامه الفناء والفساد، وكل ما سواه فهو تائه في جبروته، نائر عند طلوع نور ملكوته، وليس عند عقول الخلق إلا أنه بخلاف كل الخلق، له العز والجلال، والقدرة والكمال، والجود والإفضال، ربنا ورب مبادينا إياك نروم، ولك نصلي ونصوم، وعليك المعول، وأنت المبدأ الأول، سبحانك سبحانك.


الصفحة التالية
Icon