مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٠٦
متوقعة فكيف قال : فَإِنْ فاءَتْ؟ نقول قول القائل لعبده : إن مت فأنت حر، مع أن الموت لا بد من وقوعه، لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلا للعتق بأن يكون باقيا في ملكه حيا يعيش بعد وفاته غير معلوم فكذلك هاهنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى : فَإِنْ فاءَتْ بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا، وفيه معنى لطيف وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف اللّه وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبرا السابع : قال هاهنا : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ولم يذكر العدل في قوله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه، وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب، والإصلاح هاهنا بإزالة آثار القتل / بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال : بِالْعَدْلِ فكأنه قال : واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما، لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى الثامن : إذا قال : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ فأية فائدة في قوله وَأَقْسِطُوا نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله وَأَقْسِطُوا أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة اللّه، والإقساط إزالة القسط وهو الجور والقاسط هو الجائر، والتركيب دال على كون الأمر غير مرضي من القسط والقاسط في القلب وهو أيضا غير مرضي ولا معتد به فكذلك القسط.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٠]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
ثم قال تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ تتميما للإرشاد وذلك لأنه لما قال : وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات : ٩] كان لظان أن يظن أو لمتوهم أن يتوهم أن ذلك عند اختلاف قوم، فأما إذا كان الاقتتال بين اثنين فلا تعم المفسدة فلا يؤمر بالإصلاح، وكذلك الأمر بالإصلاح هناك عند الاقتتال، وأما إذا كان دون الاقتتال كالتشاتم والتسافه فلا يجب الإصلاح فقال : بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وإن لم تكن الفتنة عامة وإن لم يكن الأمر عظيما كالقتال بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف فاسعوا في الإصلاح.
وقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ قال بعض أهل اللغة الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فاللّه تعالى قال : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ تأكيدا للأمر وإشارة إلى أن ما بينهم ما بين الأخوة من النسب والإسلام كالأب، قال قائلهم :
أبي الإسلام لا أب [لي ] سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
المسألة الثانية : عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل اتقوا، وقال هاهنا اتقوا مع أن ذلك أهم؟ نقول الفائدة هو أن الاقتتال بين طائفتين يفضي إلى أن تعم المفسدة ويلحق كل مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى، وأما عند تخاصم رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يزيد بعضهم تأكد الخصام بين الخصوم لغرض فاسد فقال : فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ أو نقول قوله فَأَصْلِحُوا إشارة إلى الصلح، وقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ / إشارة إلى ما يصونهم عن التشاجر، لأن من اتقى اللّه شغله تقواه عن


الصفحة التالية
Icon