مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٠٩
التكبر والمتكبر في أكثر الأمر يرى جبروته على رؤوس الأشهاد، وإذا اجتمع في الخلوات مع من لا يلتفت إليه في الجامع يجعل نفسه متواضعا، فذكرهم بلفظ القوم منعا لهم عما يفعلونه.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ فيه وجهان أحدهما : أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا عاب عائب نفسا فكأنما عاب نفسه وثانيهما : هو أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب يحاربه المعيب فيعيبه فيكون هو بعيبه حاملا للغير على عيبه وكأنه هو العائب نفسه وعلى هذا يحمل قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء : ٢٩] أي أنكم إذا قتلتم نفسا قتلتم فتكونوا كأنكم قتلتم أنفسكم ويحتمل وجها آخر ثالثا وهو أن تقول لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم، أي كل واحد عاب كل واحد فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه، وهذا الوجه هاهنا ظاهر ولا كذلك في قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.
المسألة الخامسة : إن قيل قد ذكرتم أن هذا إرشاد للمؤمنين إلى ما يجب أن يفعله المؤمن عند حضوره بعد الإشارة إلى ما يفعله في غيبته، لكن قوله تعالى : وَلا تَلْمِزُوا قيل فيه بأنه العيب خلف الإنسان والهمز هو العيب في وجه الإنسان، نقول ليس كذلك بل العكس أولى، وذلك لأنا إذا نظرنا إلى قلب الحروف دللن على العكس، لأن لمز قلبه لزم وهمز قلبه هزم، والأول : يدل على القرب، والثاني : على البعد، فإن قيل اللمز هو الطعن والعيب في الوجه كان أولى مع أن كل واحد / قيل بمعنى واحد.
المسألة السادسة : قال تعالى : وَلا تَنابَزُوا ولم يقل لا تنبزوا، وذلك لأن اللماز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيبا يلمزه به، وإنما يبحث ويتبعه ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز من جانب، وأما النبز فلا يعجز كل واحد عن الإتيان به، فإن من نبز غيره بالحمار وهو ينبزه بالثور وغيره، فالظاهر أن النبز يفضي في الحال إلى التنابز ولا كذلك اللمز.
وقوله تعالى : بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ.
قيل فيه إن المراد بئس أن يقول للمسلم يا يهودي بعد الإيمان أي بعد ما آمن فبئس تسميته بالكافر، ويحتمل وجها أحسن من هذا : وهو أن يقال هذا تمام للزجر، كأنه تعالى قال : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ولا تلمزوا ولا تنابزوا فإنه إن فعل يفسق بعد ما آمن، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق فيكون قوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام : ٨٢] ويصير التقدير بئس الفسوق بعد الإيمان، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعد ما سميتموهم مؤمنين.
قال تعالى : وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وهذا يحتمل وجهين أحدهما : أن يقال هذه الأشياء من الصغائر فمن يصير عليه يصير ظالما فاسقا وبالمرة الواحدة لا يتصف بالظلم والفسق فقال ومن لم يترك ذلك ويجعله عادة فهو ظالم وثانيهما : أن يقال قوله تعالى : لا يَسْخَرْ قَوْمٌ وَلا تَلْمِزُوا وَلا تَنابَزُوا منع لهم عن ذلك في المستقبل، وقوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَتُبْ أمرهم بالتوبة عما مضى وإظهار الندم عليها مبالغة في التحذير وتشديدا في الزجر، والأصل في قوله تعالى : وَلا تَنابَزُوا لا تتنابزوا أسقطت إحدى التاءين، كما أسقط في الاستفهام إحدى الهمزتين فقال : سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة : ٦] والحذف هاهنا أولى لأن تاء


الصفحة التالية
Icon