مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١١٤
الافتخار بذلك الرابعة : فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب، وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص فإن كان ذلك الشخص شريفا صح الافتخار في ظنكم، وإن لم يكن شريفا لم يصح، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة، فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء، وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر، فكيف / يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد؟ اللّهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإن أحدا لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك، ولكن في هذا النسب أثبت النبي صلى اللّه عليه وسلم الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب، ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب،
فقال :«نحن معاشر الأنبياء لا نورث».
وقال :«العلماء ورثة الأنبياء»
أي لا نورث بالانتساب، وإنما نورث بالاكتساب، سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي عليه السلام غير أنه كان فاسقا، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل، ومال الناس إلى التبرك به فاتفق أنه خرج يوما من بيته يقصد المسجد، فأتبعه خلق فلقيه الشريف سكران، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال له : يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول اللّه، أذل وتجل! وأذم وتكرم! وأهان وتعان! فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا هذا محتمل منه لجده، وضربه معدود لحده، ولكن يا أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت، وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك!، ثم قال تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وفيه وجهان : أحدهما : أن المراد من يكون أتقى يكون عند اللّه أكرم أي التقوى تفيد الإكرام ثانيهما : أن المراد أن من يكون أكرم عند اللّه يكون أتقى أي الإكرام يورث التقوى كما
يقال : المخلصون على خطر عظيم،
والأول أشهر والثاني أظهر لأن المذكور ثانيا ينبغي أن يكون محمولا على المذكور أولا في الظاهر فيقال الإكرام للتقي، لكن ذوا العموم في المشهور هو الأول، يقال ألذ الأطعمة أحلاها أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة، وهي إثبات لكون التقوى متقدمة على كل فضيلة، فإن قيل التقوى من الأعمال والعلم أشرف،
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم :«لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد»
نقول التقوى ثمرة العلم قال اللّه تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر : ٢٨] فلا تقوى إلا للعالم فالمتقي العالم أتم علمه، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمرة لها، لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب، وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم، وأما العابد الذي يفضل اللّه عليه الفقيه فهو الذي لا علم له، وحينئذ لا يكون عنده من خشية اللّه نصاب كامل، ولعله يعبده مخافة الإلقاء في النار، فهو كالمكره، أو لدخول الجنة، فهو يعمل كالفاعل له أجرة ويرجع إلى بيته، والمتقي هو العالم باللّه، المواظب لبابه، أي المقرب إلى جنابه عنده يبيت. وفيه مباحث :
البحث الأول : الخطاب مع الناس والأكرم يقتضي اشتراك الكل في الكرامة ولا كرامة / للكافر، فإنه أضل من الأنعام وأذل من الهوام. نقول ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء : ٧٠] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه، كأنه تعالى قال من استمر عليه لو زاد زيد في كرامته، ومن


الصفحة التالية
Icon