مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١١٨
وذلك لأن الإيمان له شرفان أحدهما : بالنسبة إلى اللّه تعالى وهو تنزيه اللّه عن الشرك وتوحيده في العظمة، وثانيهما : بالنسبة إلى المؤمن فإنه ينزه النفس عن الجهل ويزينها بالحق والصدق، فهم لا يطلبون بإسلامهم جانب اللّه ولا يطلبون شرف أنفسهم بل منوا ولو علموا أن فيه شرفهم لما منوا به بل شكروا.
اللطيفة الثانية : قال : قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي الذي عندكم إسلام، ولهذا قال تعالى : وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ولم يقل : لم تؤمنوا ولكن أسلمتم لئلا يكون تصديقا لهم في الإسلام أيضا كما لم يصدقوا في الإيمان، فإن قيل لم لم يجز أن يصدقوا في إسلامهم، والإسلام هو الانقياد، وقد وجد منهم قولا وفعلا وإن لم يوجد اعتقادا وعلما وذلك القدر كاف في صدقهم؟ نقول التكذيب يقع على وجهين أحدهما : أن لا يوجد نفس المخبر عنه وثانيهما : أن لا يوجد كما أخبر في نفسه فقد يقول ما جئتنا بل جاءت بك الحاجة، فاللّه تعالى كذبهم في قولهم آمنا على الوجه الأول، أي ما آمنتم أصلا ولم يصدقوا في الإسلام على الوجه الثاني فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة.
اللطيفة الثالثة : قال : بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ يعني لا منة لكم ومع ذلك لا تسلمون رأسا برأس بحيث لا يكون لكم علينا ولا لنا عليكم منة، بل المنة عليكم، وقوله تعالى : بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ حسن أدب حيث لم يقل لا تمنوا علي بل لي المنة عليكم حيث بينت لكم الطريق المستقيم، ثم في مقابلة هذا الأدب قال اللّه تعالى :
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى : ٥٢].
اللطيفة الرابعة : لم يقل يمن عليكم أن أسلمتم بل قال : أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ لأن إسلامهم كان ضلالا حيث كان نفاقا فما منّ به عليهم، فإن قيل كيف من عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه بيّن أنهم لم يؤمنوا؟ نقول الجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها : أنه تعالى لم يقل : بل اللّه يمن عليكم أن رزقكم الإيمان، بل قال : أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ وإرسال الرسل بالآيات البينات هداية ثانيها : هو أنه تعالى يمن عليهم بما زعموا، فكأنه قال أنتم قلتم آمنا، فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار، فقال هداكم في زعمكم ثالثها : وهو الأصح، هو أن اللّه تعالى بيّن بعد ذلك شرطا فقال : إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٨]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
إشارة إلى أنه لا يخفى عليه أسراركم، وأعمال قلوبكم الخفية، وقال : بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة، وآخر السورة مع التئامه بما قبله فيه تقرير ما في أول السورة، وهو قوله تعالى : لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات : ١] فإنه لا يخفى عليه سر، فلا تتركوا خوفه في السر ولا يخفى عليه علن فلا تأمنوه في العلانية، والحمد للّه وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.


الصفحة التالية
Icon