مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٢٦
رد عليهم، فإن قيل ما المضروب عنه، نقول فيه وجهان أحدهما : تقديره لم يكذب المنذر، بل كذبوا هم، وتقديره هو أنه تعالى لما قال عنهم إنهم قالوا هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق : ٢] كان في معنى قولهم :/ إن المنذر كاذب، فقال تعالى : لم يكذب المنذر، بل هم كذبوا، فإن قيل : ما الحق؟ نقول يحتمل وجوها الأول :
البرهان القائم على صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الثاني : الفرقان المنزل وهو قريب من الأول، لأنه برهان الثالث : النبوة الثابتة بالمعجزة القاهرة فإنها حق الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق، فإن قيل بين لنا معنى الباء في قوله تعالى : بِالْحَقِّ وأية حاجة إليها، يعني أن التكذيب متعد بنفسه، فهل هي للتعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة، كما في قوله تعالى : فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ؟ [القلم : ٥، ٦] نقول فيه بحث وتحقيق، وهي في هذا الموضع لإظهار معنى التعدية، وذلك لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب، لكن النسبة تارة توجد في القائل، وأخرى في القول، تقول : كذبني فلان وكنت صادقا، وتقول : كذب فلان قول فلان، ويقال كذبه، أي جعله كاذبا، وتقول : قلت لفلان زيد يجيء غدا، فتأخر عمدا حتى كذبني وكذب قولي، والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها، قال تعالى : كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء : ١٤١] وقال تعالى : كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر : ٢٣] وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر، قال تعالى :
فَكَذَّبُوهُ [الأعراف : ٦٤] وقال : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر : ٤] إلى غير ذلك، وفي القول الاستعمال بالباء أكثر، قال اللّه تعالى : كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها [القمر : ٤٢] وقال : بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ وقال تعالى : وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ [الزمر : ٣٢] والتحقيق فيه هو أن المفعول المطلق هو المصدر، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل، فإن من ضرب لم يصدر منه غير الضرب، غير أن له محلا يقع فيه فيسمى مضروبا، ثم إذا كان ظاهرا لكونه محلا للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف، يقال ضربت عمرا، وشربت خمرا، للعلم بأن الضرب لا بد له من محل يقوم به، والشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه، وإذا قلت مررت يحتاج إلى الحرف، ليظهر معنى التعدية لعدم ظهوره في نفسه، لأن من قال : مر السحاب يفهم منه مرور ولا يفهم منه من مر به، ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضرب والشرب، وفي الخفاء دون المرور، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف لظهوره الذي فوق ظهور المرور، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب، ولهذا لا يجوز أن تقول : ضربت بعمرو، إلا إذا جعلته آلة الضرب. أما إذا ضربته بسوط أو غيره، فلا يجوز فيه زيادة الباء، ولا يجوز مروا به إلا مع الاشتراك، وتقول مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له، لأن المسح إمرار اليد بالشيء فصار كالمرور، والشكر فعل جميل غير أنه يقع بمحسن، فالأصل في الشكر، الفعل الجميل، وكونه واقعا بغيره كالبيع بخلاف الضرب، فإنه إمساس جسم بجسم بعنف، فالمضروب داخل في مفهوم الضرب أولا، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانيا، إذا عرفت هذا فالتكذيب في القائل ظاهر لأنه هو الذي يصدق أو يكذب، وفي القول غير ظاهر فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية.
وقوله لَمَّا جاءَهُمْ
في الجائي وجهان : أحدهما : أنه هو المكذب تقديره : كذبوا بالحق لما جاءهم الحق، أي لم يؤخروه إلى الفكر والتدبر ثانيهما : الجائي هاهنا هو الجائي في قوله تعالى : بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق : ٢] تقديره : كذبوا بالحق لما جاءهم المنذر، والأول لا يصح على قولنا الحق وهو الرجع،


الصفحة التالية
Icon