مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٤٠
الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
[السجدة : ١٣] أي لا تبديل لهذا القول ثالثها : لا خلف في إيعاد اللّه تعالى كما لا إخلاف في ميعاد اللّه، وهذا يرد على المرجئة حيث قالوا ما ورد في القرآن من الوعيد، فهو تخويف لا يحقق اللّه شيئا منه، وقالوا الكريم إذا وعد أنجز ووفى، وإذا أوعد أخلف وعفا رابعها : لا يبدل القول السابق أن هذا شقي، وهذا سعيد، حين خلقت العباد، قلت هذا شقي ويعمل عمل الأشقياء، وهذا تقي ويعمل عمل الأتقياء، وذلك القول عندي لا تبديل له بسعي ساع ولا سعادة إلا بتوفيق اللّه تعالى، وأما على الوجه الثاني ففي ما يُبَدَّلُ وجوه أيضا أحدها : لا يكذب لدي ولا يفتري بين يدي، فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى، ومن كان طاغيا ومن كان أطغى، فلا يفيدكم قولكم أطغاني شيطاني، ولا قول الشيطان رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ [ق : ٢٧] ثانيها : إشارة إلى معنى قوله تعالى : ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد : ١٣] كأنه تعالى قال لو أردتم أن لا أقول فألقياه في العذاب الشديد كنتم بدلتم هذا من قبل بتبديل الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي، وأما الآن فما يبدل القول لدي كما قلنا في قوله تعالى : قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق : ٢٨] المراد أن اختصامكم كان يجب أن يكون قبل هذا حيث قلت إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر : ٦] ثالثها : معناه لا يبدل الكفر بالإيمان لدي، فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله ربنا ما أشركنا وقوله ربنا آمنا وقوله تعالى : ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ إشارة إلى نفي الحال كأنه تعالى يقول ما يبدل اليوم لدي القول، لأن ما ينفي بها الحال إذا دخلت على الفعل المضارع، يقول القائل ماذا تفعل غدا؟
يقال ما أفعل شيئا أي في الحال، وإذا قال القائل ماذا يفعل غدا، يقال لا يفعل شيئا أو لن يفعل شيئا إذا أريد زيادة بيان النفي، فإن قيل هل فيه بيان معنوي يفيد افتراق ما ولا في المعنى نقول : نعم، وذلك لأن كلمة لا أدل على النفي لكونها موضوعة للنفي وما في معناه كالنهي خاصة لا يفيد الإثبات إلا بطريق الحذف أو الإضمار وبالجملة فبطريق المجاز كما في قوله لا أُقْسِمُ [البلد : ١] وأما ما فغير متمحضة للنفي لأنها واردة لغيره من المعاني حيث تكون اسما والنفي في الحال لا يفيد النفي المطلق لجواز أن يكون مع النفي في الحال الإثبات في الاستقبال، كما يقال ما يفعل الآن شيئا وسيفعل إن شاء اللّه، فاختص بما لم يتمحض نفيا حيث لم تكن متمحضة للنفي لا يقال إن لا للنفي في الاستقبال والإثبات في الحال فاكتفى في استقبال بما لم يتمحض نفيا لأنا نقول ليس كذلك إذ لا يجوز أن يقال لا يفعل زيد ويفعل الآن نعم يجوز أن يقال لا يفعل غدا ويفعل الآن لكون قولك غدا يجعل الزمان مميزا فلم يكن قولك لا يفعل للنفي في الاستقبال بل كان للنفي في بعض أزمنة الاستقبال، وفي مثالنا قلنا ما يفعل وسيفعل وما قلنا سيفعل غدا وبعد غد، بل هاهنا نفينا في الحال وأثبتنا في الاستقبال من غير تمييز زمان من أزمنة الاستقبال عن زمان، ومثاله في العكس أن يقال لا يفعل زيد وهو يفعل من غير تعيين وتمييز ومعلوم أن ذلك غير جائز.
وقوله تعالى : وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ مناسب لما تقدم على الوجهين جميعا، أما إذا قلنا بأن المراد من قوله لَدَيَّ أن قوله فَأَلْقِياهُ [ق : ٢٦] وقول القائل في قوله قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ [الزمر : ٧٢] لا تبديل له فظاهر، لأن اللّه تعالى بيّن أن قوله أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق : ٢٤] لا يكون إلا للكافر العنيد فلا يكون هو ظلاما للعبيد. وأما إذا قلنا بأن المراد ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ بل كان الواجب التبديل قبل الوقوف بين يدي فكذلك لأنه أنذر من قبل، وما عذب إلا بعد أن أرسل الرسل وبيّن السبل، وفيه مباحث لفظية ومعنوية.


الصفحة التالية
Icon