مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٤٧
هارون لا لضعف فيه وقال : فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً [الكهف : ٨٠] حيث لم يكن لضعف فيه، وحاصل الكلام أنك إذا تأملت استعمال الخشية وجدتها مستعملة لخوف بسبب عظمة المخشي، وإذا نظرت إلى استعمال الخوف وجدته مستعملا لخشية من ضعف الخائف، وهذا في الأكثر وربما يتخلف المدعى عنه لكن الكثرة كافية الثانية : قال اللّه تعالى هاهنا خَشِيَ الرَّحْمنَ مع أن وصف الرحمة غالبا يقابل الخشية إشارة إلى مدح المتقي حيث لم تمنعه الرحمة من الخوف بسبب العظمة، وقال تعالى : لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر : ٢١] إشارة إلى ذم الكافر حيث لم تحمله الألوهية التي تنبئ عنها لفظة اللَّه وفيها العظمة على خوفه وقال : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر : ٢٨] لأن (إنما) للحصر فكان فيه إشارة إلى أن الجاهل لا يخشاه فذكر اللَّه ليبين أن عدم خشيته مع قيام المقتضى وعدم المانع وهو الرحمة، وقد ذكرنا ذلك في سورة يس ونزيد هاهنا شيئا آخر، وهو أن نقول لفظة الرَّحْمنَ إشارة إلى مقتضي لا إلى المانع، وذلك لأن الرحمن معناه واهب الوجود بالخلق، والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو في الدنيا رحمان حيث أوجدنا بالرحمة، ورحيم حيث أبقى بالرزق، ولا يقال لغيره رحيم لأن البقاء بالرزق قد يظن أن مثل ذلك يأتي ممن يطعم المضطر، فيقال فلان هو الذي أبقى فلانا، وهو في الآخرة أيضا رحمان حيث يوجدنا، ورحيم حيث يرزقنا، وذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا قال : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إشارة إلى كونه رحمانا في الدنيا حيث خلقنا، رحيما في الدنيا حيث رزقنا رحمة ثم قال مرة أخرى بعد قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أي هو رحمن مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانيا، واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة : ٤] أي يخلقنا ثانيا، ورحيم يرزقنا ويكون هو المالك في ذلك اليوم، إذا علمت هذا فمن يكون منه وجود الإنسان لا يكون خوفه خشية من غيره، فإن القائل يقول لغيره أخاف منك أن تقطع رزقي أو تبدل حياتي، فإذا كان اللَّه تعالى رحمانا منه الوجود ينبغي أن يخشى، فإن من بيده الوجود بيده العدم، وقال صلى اللَّه عليه وسلم :«خشية اللَّه رأس كل حكمة»
وذلك لأن الحكيم إذا تفكر في غير اللَّه وجده محل التغير يجوز عليه العدم في كل طرفة عين، وربما يقدر اللَّه عدمه قبل أن يتمكن من الإضرار، لأن غير اللَّه إن / لم يقدر اللَّه أن يضر لا يقدر على الضرر وإن قدر عليه بتقدير اللَّه فسيزول الضرر بموت المعذب أو المعذب، وأما اللَّه تعالى فلا راد لما أراد ولا آخر لعذابه، وقال تعالى : بِالْغَيْبِ أي كانت خشيتهم قبل ظهور الأمور حيث ترى رأي العين، وقوله تعالى : وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ إشارة إلى صفة مدح أخرى، وذلك لأن الخاشي قد يهرب ويترك القرب من المخشي ولا ينتفع، وإذا علم المخشي أنه تحت حكمه تعالى علم أنه لا ينفعه الهرب، فيأتي المخشي وهو [غير] خاش فقال : وَجاءَ ولم يذهب كما يذهب الآبق، وقوله تعالى : بِقَلْبٍ مُنِيبٍ الباء فيه يحتمل وجوها ذكرناها في قوله تعالى : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق : ١٩] أحدها : التعدية أي أحضر قلبا سليما، كما يقال ذهب به إذا أذهبه ثانيها : المصاحبة يقال اشترى فلان الفرس بسرجه، أي مع سرجه وجاء فلان بأهله أي مع أهله ثالثها : وهو أعرفها الباء للسبب يقال ما أخذ فلان إلا بقول فلان وجاء بالرجاء له فكأنه تعالى قال : جاء وما جاء إلا بسبب إنابة في قلبه علم أنه لا مرجع إلا إلى اللَّه فجاء بسبب قلبه المنيب، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى : إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات : ٨٤] أي سليم من الشرك، ومن سلم من الشرك يترك غير اللَّه ويرجع إلى اللَّه فكان منيبا، ومن أناب إلى اللَّه برىء من الشرك فكان سليما.


الصفحة التالية
Icon