مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٥
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن حق الأم أعظم، لأنه تعالى قال أولا : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً فذكرهما معا، ثم خص الأم بالذكر، فقال : حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأن وصول المشاق إليها بسبب الولد أكثر، والأخبار مذكورة في هذا الباب.
ثم قال تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا من باب حذف المضاف، والتقدير ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا والفصال الفطام وهو فصله عن اللبن، فإن قيل المراد بيان مدة الرضاعة لا الفطام، فكيف عبّر عنه بالفصال؟ قلنا : لما كان الرضاع يليه الفصال ويلائمه، لأنه ينتهي ويتم به سمي فصالا.
المسألة الثانية : دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا، قال : وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة : ٢٣٣] فإذا أسقطت الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهرا من الثلاثين، بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر.
روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه، وكانت قد ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال علي : لا رجم عليها، وذكر الطريق الذي ذكرناه،
وعن عثمان أنه هم بذلك، فقرأ ابن عباس عليه ذلك.
واعلم أن العقل والتجربة يدلان أيضا على أن الأمر كذلك، قال أصحاب التجارب : إن لتكوين الجنين زمانا مقدرا، فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين، فإذا انضاف إلى ذلك المجموع مثلاه انفصل الجنين عن الأم، فلنفرض أنه يتم خلقه في ثلاثين يوما، فإذا تضاعف ذلك الزمان حتى صار ستين تحرك الجنين، فإذا تضاعف إلى هذا المجموع مثلاه وهو مائة وعشرون حتى صار المجموع مائة وثمانين وهو ستة أشهر، فحينئذ ينفصل الجنين، فلنفرض أنه يتم خلقه في خمسة وثلاثين يوما فيتحرك في سبعين يوما، فإذا انضاف إليه مثلاه وهو مائة وأربعون يوما صار المجموع مائة وثمانين وعشرة أيام، وهو سبعة أشهر انفصل الولد، ولنفرض أنه يتم خلقه في أربعين يوما، فيتحرك في ثمانين يوما، فينفصل عند مائتين وأربعين يوما، وهو ثمانية أشهر، ولنفرض أنه تمت الخلقة في خمسة وأربعين يوما، فيتحرك في تسعين يوما، فينفصل عند مائتين وسبعين يوما، وهو تسعة أشهر، فهذا هو الضبط الذي ذكره أصحاب التجارب. قال جالينوس : إن كنت شديد التفحص عن مقادير أزمنة الحمل، فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة، وزعم أو علي بن سينا أنه شاهد ذلك، فقد صار أقل مدة الحمل بحسب نص القرآن، وبحسب التجارب الطيبة شيئا واحدا، وهو ستة أشهر، وأما أكثر مدة الحمل، فليس في القرآن ما يدل عليه، قال أبو علي بن سينا : في الفصل السادس من المقالة التاسعة من عنوان الشفاء، بلغني من حيث وثقت به كل الثقة، أن المرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولدا قد نبتت أسنانه وعاش. وحكي عن أرسطاطاليس أنه قال : أزمنة الولادة، وحبل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان، فربما وضعت الحبلى لسبعة أشهر، وربما وضعت في الثامن، وقلما يعيش المولود في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر، والغالب هو الولادة بعد التاسع.
قال أهل التجارب : والذي قلناه من أنه إذا تضاعف زمان التكوين تحرك الجنين، وإذا انضم إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين، إنما قلناه بحسب التقريب لا بحسب التحديد، فإنه ربما زاد أو نقص بحسب الأيام، لأنه لم يقم على هذا الضبط برهان، إنما هو تقريب ذكروه بحسب التجربة، واللّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon