مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٥٨
الأخروي وهو العبادة أخبر بأنه لم يصرف عن الشغل الآخر وهو البعث، كما أن الملك إذا أمر بعض عبيده بشغلين فظهر عجزه في أحدهما يقول له أقبل على الشغل الآخر منهما ونحن نبعث من يقدر على الذي عجزت عنه منهما، فقال : فَاصْبِرْ. وسَبِّحْ، وما أَنْتَ.. بِجَبَّارٍ أي فما كان امتناعهم بسبب تجبر منك أو تكبر فاشمأزوا من سوء خلقك، بل كنت بهم رؤوفا وعليهم عطوفا وبالغت وبلغت وامتنعوا فأقبل على الصبر والتسبيح غير مصروف عن الشغل الأول بسبب جبروتك، وهذا في معنى قوله تعالى : ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ إلى أن قال : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم : ٢- ٤]، ثانيها : هو بيان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتى بما عليه من الهداية، وذلك لأنه أرسله منذرا وهاديا لا ملجأ ومجبرا، وهذا كما في قوله تعالى : فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [الشورى : ١٨] أي تحفظهم من الكفر والنار وقوله وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ في معنى قول القائل : اليوم فلان علينا، في جواب من يقول : من عليكم اليوم؟ أي من الوالي عليكم ثالثها : هو بيان لعدم وقت نزول العذاب بعد، وذلك لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أنذر وأعذر وأظهر لم يؤمنوا كان يقول إن هذا وقت العذاب، فقال : نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بمسلط فذكر بعذابي إن لم يؤمنوا من بقي منهم ممن تعلم أنه يؤمن ثم تسلط، ويؤيد هذا قول المفسرين أن الآية نزلت قبل نزول آية القتال، وعلى هذا فقوله فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي من بقي منهم ممن يخاف يوم الوعيد، وفيه وجوه أخر أحدها : أنا بينا في أحد الوجوه أن قوله تعالى :
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ [ق : ٣٩] معناه أقبل على العبادة، ثم قال : ولا تترك الهداية بالكلية بل وذكر المؤمنين فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات : ٥٥] وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف : ١٩٩] / وقوله بِالْقُرْآنِ فيه وجوه الأول : فذكر بما في القرآن واتل عليهم القرآن يحصل لهم بسبب ما فيه المنفعة الثاني :
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ أي بيّن به أنك رسول لكونه معجزا، وإذا ثبت كونك رسولا لزمهم قبول قولك في جميع ما تقول به الثالث : المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير، وحينئذ يكون ذكر القرآن لانتفاع النبي صلى اللّه عليه وسلم به أي اجعل القرآن إمامك، وذكرهم بما أخبرت فيه بأن تذكرهم، وعلى الأول معناه اتل عليهم القرآن ليتذكروا بسببه، وقوله تعالى : مَنْ يَخافُ وَعِيدِ من جملة ما يبين كون الخشية دالة على عظمة المخشي أكثر مما يدل عليه الخوف، حيث قال : يَخافُ عند ما جعل المخوف عذابه ووعيده، وقال :
اخْشَوْنِي [البقرة : ١٥٠] عند ما جعل المخوف نفسه العظيم، وفي هذه الآية إشارة إلى الأصول الثلاثة، وقوله فَذَكِّرْ إشارة إلى أنه مرسل مأمور بالتذكير منزل عليه القرآن حيث قال : بِالْقُرْآنِ وقوله وَعِيدِ إشارة إلى اليوم الآخر وضمير المتكلم في قوله وَعِيدِ يدل على الوحدانية، فإنه لو قال من يخاف وعيد اللّه كان يذهب وهم اللّه إلى كل صوب فلذا قال : وَعِيدِ والمتكلم أعرف المعارف وأبعد عن الإشراك به وقبول الاشتراك فيه، وقد بينا في أول السورة أن أول السورة وآخرها متقاربان في المعنى حيث قال في الأول ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق : ١] وقال في آخرها فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ.
وهذا آخر تفسير هذه السورة والحمد للّه ربّ العالمين، وصلاته على خاتم النبيّين وسيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وذريته أجمعين.


الصفحة التالية
Icon