مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٦٥
فِتْنَتَكُمْ والفتنة الامتحان، فإن قيل فإذا جعلت يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ مقولا لهم ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ فما قوله هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟ قلنا يحتمل أن يكون المراد كنتم تستعجلون بصريح القول كما في قوله تعالى حكاية عنهم رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص : ١٦] وقوله فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف : ٧٠] إلى غير ذلك يدله عليه هاهنا قوله تعالى : يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات : ١٢] فإنه نوع استعجال، ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو الإصرار على العناد وإظهار الفساد فإنه يعجل العقوبة. / ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ١٥]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥)
بعد بيان حال المغترين المجرمين بين حال المحق المتقي، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا أن المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك، وأعلاها أن يتقي ما سوى اللّه، وأدنى درجات المتقي الجنة، فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة فيرزق نعيمها.
المسألة الثانية : الجنة تارة وحدها كما قال تعالى : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد : ٣٥] وأخرى جمعها كما في هذا المقام قال : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وتارة ثناها فقال تعالى : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن : ٤٦] فما الحكمة فيه؟ نقول أما الجنة عند التوحيد فلأنها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما حكمة الجمع فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إلى جنانها جنات لا يحصرها عدد، وأما التثنية فسنذكرها في سورة الرحمن غير أنا نقول هاهنا اللّه تعالى عند الوعد وحّد الجنة، وكذلك عند الشراء حيث قال : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة : ١١١] وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة والخلاف ما لو وعد بجنات، ثم كان يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود الثالثة : قوله تعالى : وَعُيُونٍ يقتضي أن يكون المتقي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماء أو غير ذلك من المائعات، نقول معناه في خلال العيون، وذلك بين الأنهار بدليل أن قوله تعالى : فِي جَنَّاتٍ ليس معناه إلا بين جنات وفي خلالها لأن الجنة هي الأشجار، وإنما يكون بينها كذلك القول في العيون والتنكير، مع أنها معرفة للتعظيم يقال فلان رجل أي عظيم في الرجولية.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ١٦]
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦)
وقوله تعالى : آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ فيه مسائل ولطائف، أما المسائل :
فالأولى منها : ما معنى آخذين؟ نقول فيه وجهان أحدهما : قابضين ما آتاهم شيئا فشيئا ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له ثانيها : آخذين قابلين قبول راض كما قال تعالى : وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التوبة : ١٠٤] أي يقبلها، وهذا ذكره الزمخشري وفيه وجه ثالث : وهو أن قوله فِي جَنَّاتٍ يدل على السكنى فحسب وقوله آخِذِينَ يدل على التملك ولذا يقال أخذ بلاد كذا وقلعة كذا إذا دخلها متملكا لها، وكذلك يقال لمن اشترى دارا أو بستانا أخذه بثمن قليل أي تملكه، وإن لم يكن هناك قبض حسا ولا قبول برضا، وحينئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو ضعف يسترد منه ذلك، بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من اللّه تعالى


الصفحة التالية
Icon