مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٨١
إسرافهم؟ نقول ما دل عليه قوله تعالى : ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت : ٢٨] أي لم يبلغ مبلغكم أحد وقوله تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٣٥]
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥)
فيه فائدتان :
إحداهما : بيان القدرة والاختيار فإن من يقول بالاتفاق يقول يصيب البر والفاجر فلما ميز اللّه المجرم عن المحسن دل على الاختيار.
ثانيها : بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك، والضمير عائد إلى القرية معلومة وإن لم تكن مذكورة وقوله تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٣٦]
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦)
فيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب والفسق إذا فشا لا تنفع معه عبادة المؤمنين، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون، وقيل في مثاله إن العالم كبدن ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والكفار والفساق كالسموم الواردة عليه الضارة، ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه المضار هلك وإن خلا عن المضار وفيه المنافع طاب عيشه ونما، وإن وجد فيه كلاهما فالحكم للغالب فكذلك البلاد والعباد والدلالة على أن المسلم بمعنى المؤمن ظاهرة، والحق أن المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما، فكأنه تعالى قال أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين، وهذا كما لو قال قائل لغيره : من في البيت من الناس؟ فيقول له ما في البيت من الحيوانات أحد غير زيد، فيكون مخبرا له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٣٧]
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧)
وفي الآية خلاف، قيل هو ماء أسود منتن انشقت أرضهم وخرج منها ذلك، وقيل حجارة مرمية في ديارهم وهي بين الشام والحجاز، وقوله لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي المنتفع بها هو الخائف، كما قال تعالى : لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت : ٣٥] في سورة العنكبوت، وبينهما في اللفظ فرق قال هاهنا آيَةً وقال هناك آيَةً بَيِّنَةً وقال هناك لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقال هاهنا لِلَّذِينَ يَخافُونَ فهل في المعنى فرق؟ نقول هناك مذكور بأبلغ وجه يدل عليه قوله تعالى : آيَةً بَيِّنَةً حيث وصفها بالظهور، وكذلك منها وفيها فإن من للتبعيض، فكأنه تعالى قال : من نفسها لكم آية باقية، وكذلك قال : لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإن العاقل أعم من الخائف، فكانت الآية هناك أظهر، وسببه ما ذكرنا أن القصد هناك تخويف القوم، وهاهنا تسلية القلب ألا ترى إلى قوله تعالى : فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات : ٣٥، ٣٦] وقال هناك إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ [العنكبوت : ٣٣] من غير بيان واف بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم. / ثم قال تعالى :


الصفحة التالية
Icon