مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٨٦
عن عدم القدرة والاستقلال، فمن استطاع شيئا كان دون من يقدر عليه، ولهذا يقول المتكلمون الاستطاعة مع الفعل أو قبل الفعل إشارة إلى قدرة مطلوبه من اللّه تعالى مأخوذة منه وإليه الإشارة بقوله تعالى : هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [المائدة : ١١٢] على قراءة من قرأ بالتاء وقوله فَمَا اسْتَطاعُوا أبلغ من قول القائل ما قدروا على قيام ثانيها : قوله تعالى : مِنْ قِيامٍ بزيادة من، وقد عرفت ما فيه من التأكيد ثالثها : قوله قِيامٍ بدل قوله هرب لما بينا أن العاجز عن القيام أولى أن يعجز عن الهرب الوجه الثاني : هو أن المراد من قيام القيام بالأمر، أي ما استطاعوا من قيام به.
وقوله تعالى : وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ما استطاعوا الهزيمة والهرب، ومن لا يقدر عليه يقاتل وينتصر بكل ما يمكنه لأنه يدفع عن الروح وهم مع ذلك ما كانوا منتصرين، وقد عرفت أن قول القائل ما هو بمنتصر أبلغ من قوله ما انتصر ولا ينتصر والجواب ترك مع كونه يجب تقديره وقوله / (ما انتصر) أي لشيء من شأنه ذلك، كما تقول فلان لا ينصر أو فلان ليس ينصر. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٦]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)
قرئ قَوْمَ بالجر والنصب فما وجههما؟ نقول أما الجر فظاهر عطفا على ما تقدم في قوله تعالى وَفِي عادٍ [الذاريات : ٤١] وَفِي مُوسى [الذاريات : ٣٨]، تقول لك في فلان عبرة وفي فلان وفلان، وأما النصب فعلى تقدير : وأهلكنا قوم نوح من قبل، لأن ما تقدم دلّ على الهلاك فهو عطف على المحل، وعلى هذا فقوله مِنْ قَبْلُ معناه ظاهر كأنه يقول (و أهلكنا قوم نوح من قبل) وأما على الوجه الأول فتقديره : وفي قوم نوح لكم عبرة من قبل ثمود وعاد وغيرهم. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٧]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧)
وهو بيان للوحدانية، وما تقدم كان بيانا للحشر.
وأما قوله هاهنا وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وأنتم تعرفون أن ما تعبدون من دون اللّه ما خلقوا منها شيئا فلا يصح الإشراك، ويمكن أن يقال هذا عود بعد التهديد إلى إقامة الدليل، وبناء السماء دليل على القدرة على خلق الأجسام ثانيا، كما قال تعالى : أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس : ٨١] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : النصب على شريطة التفسير يختار في مواضع، وإذا كان العطف على جملة فعليه فما تلك الجملة؟ نقول في بعض الوجوه التي ذكرناها في قوله تعالى : وَفِي عادٍ [الذاريات : ٤١] وَفِي ثَمُودَ [الذاريات : ٤٣] تقديره وهل أتاك حديث عاد وهل أتاك حديث ثمود، عطفا على قوله هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات : ٢٤] وعلى هذا يكون ما تقدم جملة فعلية لا خفاء فيه، وعلى غير ذلك الوجه فالجار والمجرور النصب أقرب منه إلى الرفع فكان عطفا على ما بالنصب أولى، ولأن قوله تعالى : نَبَذْناهُمْ
[الذاريات : ٤٠] وقوله أَرْسَلْنا [الذاريات : ٣٢] وقوله تعالى : فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ [الذاريات : ٤٤] وفَمَا اسْتَطاعُوا [الذاريات : ٤٥] كلها فعليات فصار النصب مختارا.


الصفحة التالية
Icon