مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٨٨
قال : بِيَدَيَّ وحيث قال : بَنَيْنا قال : بِأَيْدٍ لمقابلة الجمع بالجمع، فإن قيل فلم لم يقل بنيناها بأيدينا وقال : مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا؟ نقول لفائدة / جليلة، وهي أن السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة لغير اللّه والأنعام ليست كذلك، فقال هناك مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا تصريحا بأن الحيوان مخلوق للّه تعالى من غير واسطة وكذلك خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وفي السماء بِأَيْدٍ من غير إضافة للاستغناء عنها وفيه لطيفة أخرى وهي أن هناك لما أثبت الإضافة بعد حذف الضمير العائد إلى المفعول، فلم يقل خلقته بيدي ولا قال عملته أيدينا وقال هاهنا بَنَيْناها لأن هناك لم يخطر ببال أحد أن الإنسان غير مخلوق وأن الحيوان غير معمول فلم يقل خلقته ولا عملته وأما السماء فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة فقال : بَنَيْناها بعود الضمير تصريحا بأنها مخلوقة.
وقوله تعالى : وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ فيه وجوه أحدها : أنه من السعة أي أوسعناها بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إلى السماء وسعتها كحلقة في فلاة، والبناء الواسع الفضاء عجيب فإن القبة الواسعة لا يقدر عليها البناءون لأنهم يحتاجون إلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ويثبت بها تماسك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض ثانيها : قوله وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي لقادرون ومنه قوله تعالى : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة : ٢٨٦] أي قدرتها والمناسبة حينئذ ظاهرة، ويحتمل أن يقال بأن ذلك حينئذ إشارة إلى المقصود الآخر وهو الحشر كأنه يقول : بنينا السماء، وإنا لقادرون على أن نخلق أمثالها، كما في قوله تعالى :
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس : ٨١] ثالثها : إِنَّا لَمُوسِعُونَ الرزق على الخلق. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٨]
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨)
استدلالا بالأرض وقد علم ما في قوله وَالْأَرْضَ فَرَشْناها وفيه دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش، وقوله تعالى : فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن أو فنعم الماهدون ماهدوها.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٩]
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩)
ثم قال تعالى : وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ استدلالا بما بينهما والزوجان إما الضدان فإن الذكر والأنثى كالضدين والزوجان منهما كذلك، وإما المتشاكلان فإن كل شيء له شبيه ونظير وضد وند، قال المنطقيون المراد بالشيء الجنس وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان فمن كل جنس خلق نوعين من الجوهر مثلا المادي والمجرد، ومن المادي النامي والجامد ومن النامي المدرك والنبات من المدرك للناطق والصامت، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه.
وقوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لعلّكم تذكرون أن خالق الأزواج لا يكون له زوج وإلا لكان ممكنا فيكون مخلوقا ولا يكون خالقا، أو لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أن خالق الأزواج لا يعجز عن حشر الأجسام وجمع الأرواح. / ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٠]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)


الصفحة التالية
Icon