مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٩١
قالُوا
فإن قيل : فلم لم يذكر المصدقين، كما ذكر المكذبين، وقال إلا قال بعضهم صدقت، وبعضهم كذبت؟
نقول لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب، فكأنه تعالى قال : لا تأس على تكذيب قومك، فإن أقواما قبلك كذبوا، ورسلا كذبوا. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٣]
أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣)
أي بذلك القول، وهو قولهم ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ومعناه التعجيب، أي كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤا عليه، وقال بعضهم لبعض : لا تقولوا إلا هذا، ثم قال : لم يكن ذلك على التواطؤ، وإنما كان لمعنى جامع هو أن الكل أترفوا فاستغنوا فنسوا اللّه وطغوا فكذبوا رسله، كما أن الملك إذا أمهل أهل بقعة، ولم يكلفهم بشيء، ثم قعد بعد مدة وطلبهم إلى بابه يصعب عليهم لاتخاذهم القصور والجنان، وتحسين بلادهم من الوجوه الحسان، فيحملهم ذلك على العصيان، والقول بطاعة ملك آخر. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٤]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤)
هذه تسلية أخرى، وذلك لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان من كرم الأخلاق ينسب نفسه إلى تقصير، ويقول إن عدم إيمانهم لتقصيري في التبليغ / فيجتهد في الإنذار والتبليغ، فقال تعالى : قد أتيت بما عليك، ولا يضرك التولي عنهم، وكفرهم ليس لتقصير منك، فلا تحزن فإنك لست بملوم بسبب التقصير، وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٥]
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)
يعني ليس التولي مطلقا، بل تول وأقبل وأعرض وادع، فلا التولي يضرك إذا كان عنهم، ولا التذكير ينفع إلا إذا كان مع المؤمنين، وفيه معنى آخر ألطف منه، وهو أن الهادي إذا كانت هدايته نافعة يكون ثوابه أكثر، فلما قال تعالى : فَتَوَلَّ كان يقع لمتوهم أن يقول، فحينئذ لا يكون للنبي صلى اللّه عليه وسلم ثواب عظيم، فقل بلى وذلك لأن في المؤمنين كثرة، فإذا ذكرتهم زاد هداهم، وزيادة الهدى من قوله كزيادة القوم، فإن قوما كثيرا إذا صلّى كل واحد ركعة أو ركعتين، وقوما قليلا إذا صلّى كل واحد ألف ركعة تكون العبادة في الكثرة كالعبادة عن زيادة العدد، فالهادي له على عبادة كل مهتد أجر، ولا ينقص أجر المهتدي، قال تعالى : إِنَّ لَكَ لَأَجْراً [القلم : ٣] أي وإن توليت بسبب انتفاع المؤمنين بل وحالة إعراضك عن المعاندين، وقوله تعالى : فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ يحتمل وجوها : أحدها : أن يراد قوة يقينهم كما قال تعالى : لِيَزْدادُوا إِيماناً [الفتح : ٤] وقال تعالى : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً [التوبة : ١٢٤] وقال تعالى : زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد : ١٧] ثانيها : تنفع المؤمنين الذين بعدك فكأنك إذا أكثرت التذكير بالتكرير نقل عنك ذلك بالتواتر فينتفع به من يجيء بعدك من المؤمنين ثالثها : هو أن الذكرى إن أفاد إيمان كافر فقد نفع مؤمنا لأنه صار مؤمنا، وإن لم يفد يوجد حسنة ويزاد في حسنة المؤمنين فينتفعوا، وهذا هو الذي قيل في قوله تعالى : تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها [الزخرف : ٧٢]. ثم قال تعالى :
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٦]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)


الصفحة التالية
Icon