مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ١٩٦
قال : ذُو الْقُوَّةِ وذلك لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير، ولكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحدا فإن كثيرا من الناس يرزق ولده وغيره ويسترزق والملك يرزق الجند ويسترزق، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب، لأن المسترزق ممن يكثر الرزق لا يسترزق من رزقه، فلم يكن ذلك المقصود يحصل له إلا بالمبالغة في وصف الرزق، فقال : الرَّزَّاقُ وأما ما يغني عن الاستعانة بالغير فدون ذلك : وذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به، وإذا كان دون ذلك يستعين استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك، ولما قال : وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ كفاه بيان نفس القوة فقال : ذُو الْقُوَّةِ إفادة معنى القوة دون القوى لأن ذا لا يقال في الوصف اللازم البين فيقال في الآدمي ذو مال ومتمول وذو جمال وجميل وذو خلق حسن وخليق إلى غير ذلك مما لا يلزمه لزوما بينا، ولا يقال في الثلاثة ذات فردية ولا في الأربعة ذات زوجية، ولهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية التي ليست مأخوذة من الأفعال ولذا لم يسمع ذو الوجود وذو الحياة ولا ذو العلم ويقال في الإنسان ذو علم وذو حياة لأنها عرض فيه عارض لا لازم بين، وفي صفات الفعل يقال اللّه تعالى ذو الفضل كثيرا وذو الخلق قليلا لأن ذا كذا بمعنى صاحبه وربه والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلا عن اللزوم البين، والذي يؤيد هذا هو أنه تعالى قال : وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف : ٧٦] فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقوي، ويؤيده أيضا أنه تعالى قال : فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [غافر : ٢٢] وقال تعالى : اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [الشورى : ١٩] وقال تعالى :
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة : ٢١] لأن في هذه الصور كان المراد بيان القيام بالأفعال العظيمة والمراد هاهنا عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر ما، ومن يقوم مستبدا / بالفعل لا بد له من قوة عظيمة، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عنه، ولو بين هذا البحث في معرض الجواب عن سؤال سائل عن الفرق بين قوله ذُو الْقُوَّةِ هاهنا وبين قوله قَوِيٌّ في تلك المواضع لكان أحسن، فإن قيل فقد قال تعالى : لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد : ٢٥] وفيه ما ذكرت من المعنى وذلك لأن قوله قَوِيٌّ لبيان أنه غير محتاج إلى النصرة وإنما يريد أن يعلم ليثيب الناصر، لكن عدم الاحتياج إلى النصرة يكفي فيه قوة ما، فلم لم يقل إن اللّه ذو القوة؟ نقول فيه إنه تعالى قال من ينصره ورسله، ومعناه أنه يغني رسله عن الحاجة ولا يطلب نصرتهم من خلقه ليعجزهم وإنما يطلبها لثواب الناصرين لا لاحتياج المستنصرين وإلا فاللّه تعالى وعدهم بالنصر حيث قال : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات : ١٧١، ١٧٢] ولما ذكر الرسل قال قوي يكون ذلك تقوية تقارب رسله المؤمنين، وتسلية لصدورهم وصدور المؤمنين.
البحث الثاني : قال : الْمَتِينُ وذلك لأن ذُو الْقُوَّةِ كما بينا لا يدل إلا على أن له قوة ما فزاد في الوصف بيانا وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظا ومعنى فإن متن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته، والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن، والمتانة مع القوة كالعزة مع القوة حيث ذكر اللّه تعالى في مواضع ذكر القوة والعزة فقال : قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد : ٢٥] وقال الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [هود : ٦٦].
وفيه لطيفة تؤيد ما ذكرنا من البحث في القوي وذي القوة، وذلك لأن المتين هو الثابت الذي لا يتزلزل


الصفحة التالية
Icon