مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٢١٢
إشارة إلى أنهم يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه، وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا، فتزداد لذة المؤمن من حيث يرى نفسه انتقلت من السجن إلى الجنة ومن الضيق إلى السعة، ويزداد الكافر ألما حيث يرى نفسه منتقلة من الشرف إلى التلف ومن النعيم إلى الجحيم، ثم يتذكرون ما كانوا / عليه في الدنيا من الخشية والخوف، فيقولون إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ وهو أنهم يكون تساؤلهم عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون خشية اللّه كنا نخاف اللّه فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ وفيه لطيفة وهو أن يكون إشفاقهم على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان ثم لما نزلوا الجنة علموا خطأهم. ثم قال تعالى :
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٩ إلى ٣١]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١)
وتعلق الآية بما قبلها ظاهر لأنه تعالى بيّن أن في الوجود قوما يخافون اللَّه ويشفقون في أهليهم، والنبي صلى اللَّه عليه وسلم مأمور بتذكير من يخاف اللَّه تعالى بقوله فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق : ٤٥] فحقق من يذكره فوجب التذكير، وأما الرسول عليه السلام فليس له إلا الإتيان بما أمر به، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الفاء في قوله فَذَكِّرْ قد علم تعلقه بما قبله فحسن ذكره بالفاء.
المسألة الثانية : معنى الفاء في قوله فَما أَنْتَ أيضا قد علم أي أنك لست بكاهن فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم، فإن ذلك سيرة المزور فذكر فإنك لست بمزور، وذلك سبب التذكير.
المسألة الثالثة : ما وجه تعلق قوله نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ بقوله شاعِرٌ؟ نقول فيه ووجهان الأول : أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء وتتقي ألسنتهم، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون، وقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره، وإنما سبيلنا الصبر وتربص موته الثاني :
أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يقول إن الحق دين اللَّه، وإن الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر وكتابي يتلى إلى قيام الساعة،
فقالوا ليس كذلك إنما هو شاعر، والذي يذكره في حق آلهتنا شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهلاك فنتربص به ذلك.
المسألة الرابعة : ما معنى ريب المنون؟ نقول قيل هو اسم للموت فعول من المن وهو القطع والموت قطوع، ولهذا سمي بمنون، وقيل المنون الدهر وريبه حوادثه، وعلى هذا قولهم نَتَرَبَّصُ يحتمل وجها آخر، وهو أن يكون المراد أنه إذا كان شاعرا فصروف الزمان ربما تضعف ذهنه وتورث وهنه فيتبين لكل فساد أمره وكساد شعره.
المسألة الخامسة : كيف قال : تَرَبَّصُوا بلفظ الأمر وأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم يوجب المأمور [به ] أو يفيد جوازه، وتربصهم ذلك كان حراما؟ نقول ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد معناه تربصوا ذلك فإنا نتربص الهلاك بكم على حد ما يقول السيد الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك / بغافل وهو أمر لتهوين الأمر على النفس، كما يقول القائل لمن يهدده برجل ويقول أشكوك إلى زيد فيقول اشكني أي لا يهمني ذلك وفيه زيادة فائدة، وذلك لأنه لو قال لا تشكني لكان ذلك دليل الخوف وينافيه معناه، فأتى بجواب تام من حيث اللفظ والمعنى، فإن قيل


الصفحة التالية
Icon