مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٢٣٧
الآن وسيضرب غدا أمرا مشتركا فيسميه ضربا فضرب يوجد أولا ويستخرج منه الضرب، والألفاظ وضعت لأمور تتحقق فيها فيعبر بها عنها والأمور المشتركة لا تتحقق إلا في ضمن أشياء أخر، فالوضع أولا لما يوجد منه لا يدرك منه قبل الضرب، وهذا ما يمكن أن يقال لمن يقول الماضي أصل والمصدر مأخوذ منه وأما الذي يقول المصدر أصل والماضي مأخوذ منه فله دلائل منها أن الاسم أصل، والفعل متفرع، والمصدر اسم، ولأن المصدر معرب والماضي مبني، والإعراب قبل البناء ولأن قال وقال، وراع وراع، إذا أردنا الفرق بينهما نرد أبنيتهما إلى المصدر فنقول قال الألف منقلبة من واو بدليل القول، وقال ألف منقلبة من ياء بدليل القيل وكذلك الروع والريع. وأما المعقول فلأن الألفاظ وضعت للأمور التي في الأذهان، والعام قبل الخاص في الذهن، فإن الموجود إذا أدرك يقول المدرك هذا الموجود جوهر أو عرض فإذا أدرك أنه جوهر يقول إنه جسم أو غير جسم عند من يجعل الجسم جوهرا وهو الأصح الأظهر، ثم إذا أدرك كونه جسما يقول هو تام وكذلك الأمر إلى أن ينتهي إلى أخص الأشياء إن أمكن الانتهاء إليه بالتقسيم، فالوضع الأول الفعل وهو المصدر من غير زيادة، ثم إذا انضم إليه زمان تقول : ضرب أو سيضرب فالمصدر قبل الماضي، وهذا هو الأصح، إذا علمت هذا فنقول على مذهب من يقول المصدر في الثلاثي من الماضي فالحب وأحب كلاهما في درجة / واحدة لأن كليهما من حب يحب والمصدر من الثلاثي قبل مصدر المنشعبة بمرتبة، وعلى مذهب من يقول الماضي في الثلاثي مأخوذ من المصدر فالمصدر الثلاثي قبل المصدر في المنشعبة بمرتبتين فاستعمل مصدر الثلاثي لأنه قبل مصدر المنشعبة، وأما الفعل في أحب وأوحى فلأن الألف فيهما تفيد فائدة لا يفيدها الثلاثي المجرد لأن أحب أدخل في التعدية وأبعد عن توهم اللزوم فاستعمله.
المسألة الرابعة : إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أبلغ من قول القائل هو وحي، وفيه فائدة غير المبالغة وهي أنهم كانوا يقولون هو قول كاهن، هو قول شاعر فأراد نفي قولهم وذلك يحصل بصيغة النفي فقال ما هو كما يقولون وزاد فقال : بل هو وحي، وفيه زيادة فائدة أخرى وهو قوله يُوحى ذلك كقوله تعالى : وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام : ٣٨] وفيه تحقيق الحقيقة فإن الفرس الشديد العدو ربما يقال هو طائر فإذا قال يطير بجناحيه يزيل جواز المجاز، كذلك يقول بعض من لا يحترز في الكلام ويبالغ في المبالغة كلام فلان وحي، كما يقول شعره سحر، وكما يقول قوله معجزة، فإذا قال يوحى يزول ذلك المجاز أو يبعد. ثم قال تعالى :
[سورة النجم (٥٣) : آية ٥]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥)
وفيه وجهان أشهرهما عند المفسرين أن الضمير في عَلَّمَهُ عائد إلى الوحي أي الوحي علمه شديد القوى والوحي إن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإلهام فهو كقوله تعالى : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء :
١٩٣] والأولى أن يقال الضمير عائد إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم تقديره علم محمد شديد القوى جبريل وحينئذ يكون عائدا إلى صاحبكم، تقديره علم صاحبكم وشديد القوى هو جبريل، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة فيعلم ويعمل، وقوله شَدِيدُ الْقُوى فيه فوائد الأولى : أن مدح المعلم مدح المتعلم فلو قال علمه جبريل ولم يصفه ما كان يحصل للنبي صلى اللّه عليه وسلم فضيلة ظاهرة الثانية : هي أن فيه ردا عليهم حيث قالوا أساطير الأولين سمعها وقت سفره إلى الشام، فقال لم يعلمه أحد من الناس بل معلمه شديد القوى، والإنسان خلق ضعيفا وما أوتي من العلم إلا قليلا الثالثة : فيه وثوق بقول جبريل عليه السلام فقوله تعالى : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى جمع ما يوجب الوثوق


الصفحة التالية
Icon