مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٢٤٠
واجب التعظيم والاتباع فصار النبي صلى اللّه عليه وسلم عنده كالتبع له على قول من يفضل جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم، وفيه وجه آخر على ما ذكرنا، وهو أن يكون القوس عبارة عن بعد من قاس يقوس، وعلى هذا فنقول ذلك البعد هو البعد النوعي الذي كان للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فإنه على كل حال كان بشرا، وجبريل على كل حال كان ملكا، فالنبي صلى اللّه عليه وسلم وإن زال عن الصفات التي تخالف صفات الملك من الشهوة والغضب والجهل والهوى لكن بشريته كانت باقية، وكذلك جبريل وإن ترك الكمال واللطف الذي يمنع الرؤية والاحتجاب، لكن لم يخرج عن كونه ملكا فلم يبق بينهما إلا اختلاف حقيقتهما، وأما سائر الصفات الممكنة الزوال فزالت عنهما فارتفع النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ الأفق الأعلى من البشرية وتدلى جبريل عليه السلام حتى بلغ الأفق الأدنى من الملكية فتقاربا ولم يبق بينهما إلا حقيقتهما، وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأول وجهان أحدهما : أن اللّه تعالى أوحى، وعلى هذا ففي عبده وجهان أحدهما : أنه جبريل عليه السلام ومعناه أوحى اللّه إلى جبريل، وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأخير وجهان أحدهما : اللّه تعالى أيضا، والمعنى حينئذ أوحى اللّه تعالى إلى جبريل عليه السلام الذي أوحاه إليه تفخيما وتعظيما للموحي ثانيهما :
فاعل أوحى ثانيا جبريل، والمعنى أوحى اللّه إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول، وفيه بيان أن جبرائيل أمين لم يخن في شيء مما أوحى إليه، وهذا كقوله تعالى : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء : ١٩٣] وقوله مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير : ٢١] الوجه الثاني : في عبده على قولنا الموحي هو اللّه أنه محمد صلى اللّه عليه وسلم معناه أوحى اللّه إلى محمد ما أوحى إليه للتفخيم والتعظيم، وهذا على ما ذكرناه من التفسير ورد على ترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم في الأول حصل في الأفق الأعلى من مراتب الإنسان وهو النبوة ثم دنا من جبريل وهو في مرتبة النبوة فصار رسولا فاستوى وتكامل ودنا من الأمة باللطف وتدلى إليهم بالقول الرفيق وجعل يتردد مرارا بين أمته وربه، فأوحى اللّه إليه من غير واسطة جبريل ما أوحى والوجه الثاني : في فاعل أوحى أولا هو أنه جبريل أوحى أي عبده إلى عبد اللّه واللّه معلوم وإن لم يكن مذكورا وفي قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ : ٤٠، ٤١] ما يوجب القطع بعدم جواز إطلاق هذا اللفظ على النبي صلى اللّه عليه وسلم، وعلى هذا ففاعل أوحى ثانيا يحتمل وجهين أحدهما : أنه جبريل أي أوحى جبريل إلى عبد اللّه ما أوحاه جبريل للتفخيم وثانيهما : أن يكون هو اللّه تعالى أي أوحى جبريل إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ما أوحى اللّه إليه وفي الذي وجوه أولها : الذي أوحى الصلاة /.
ثانيها : أن أحدا من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأمة من الأمم لا تدخل الجنة قبل أمتك. ثالثها : أن ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل، وهذا على قولنا بأن المراد جبريل صحيح، والوجهان المتقدمان على قولنا المراد محمد علي............... ه الصلاة والسلام أظهر، وفيه وجه غريب من حيث العربية مشهور معناه عند الأصوليين، ولنبين ذلك في معرض الجواب عن سؤال، وهو أن يقال بم عرف محمد صلى اللّه عليه وسلم أن جبريل ملك من عند اللّه وليس أحدا من الجن، والذي يقال إن خديجة كشفت رأسها امتحانا في غاية الضعف إن ادعى ذلك القائل أن المعرفة حصلت بأمثال ذلك، وهذا إن أراد القصة والحكاية، وإن خديجة فعلت هذا لأن فعل خديجة غير منكر وإنما المنكر دعوى حصول المعرفة بفعلها وأمثالها، وذلك لأن الشيطان ربما تستر عند كشف رأسها أصلا فكان يشتبه بالملائكة فيحصل اللبس والإبهام؟ والجواب الصحيح من وجهين أحدهما : أن اللّه أظهر على يد جبريل معجزة عرفه النبي صلى اللّه عليه وسلم بها كما أظهر على يد محمد معجزات عرفناه بها وثانيهما : أن اللّه تعالى خلق في محمد صلى اللّه عليه وسلم علما ضروريا بأن جبريل من عند اللّه ملك لا جني ولا شيطان كما أن اللّه تعالى خلق في جبريل علما ضروريا أن


الصفحة التالية
Icon