مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٣٧
للحق، ويحتمل وجهين آخرين أحدهما : على قولنا مِنْ رَبِّهِمْ أي من عند ربهم اتبع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق، نقول هذا مثل يضرب عليه جميع الأمثال، فإن الكل من عند اللّه الإضلال وغيره والاتباع وغيره وثانيهما : هو أن اللّه تعالى لما بيّن أن الكافر يضل اللّه عمله والمؤمن يكفر اللّه سيئاته، وكان بين الكفر والإيمان مباينة ظاهرة فإنهما ضدان، نبه على أن السبب كذا أي ليس الإضلال والتكفير بسبب المضادة والاختلاف بل بسبب اتباع الحق والباطل، وإذا علم السبب فالفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الحق والآخر اتباع الباطل، فإن من يؤمن ظاهرا وقلبه مملوء من الكفر، ومن يؤمن بقلبه وقلبه مملوء من الإيمان اتحد فعلاهما في الظاهر، وهما مختلفان بسبب اتباع الحق واتباع الباطل، لا بدع من ذلك فإن من يؤمن ظاهرا وهو يسر الكفر، ومن يكفر ظاهرا بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان اختلف الفعلان في الظاهر، وإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب أن اتباع الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان وعلم سببه، وهو اتباع الحق والباطل، فكذلك اعلموا أن كل شيء اتبع فيه الحق كان مقبولا مثابا عليه، وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردودا معاقبا عليه فصار هذا عاما في الأمثال، على أنا نقول قوله كَذلِكَ لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب بل معناه أنه تعالى لما بيّن حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته وبيّن السبب فيهما، كان ذلك غاية الإيضاح فقال :
كَذلِكَ أي مثل هذا البيان يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ويبين لهم أحوالهم.
المسألة الثانية : الضمير في قوله أَمْثالَهُمْ عائد إلى من؟ فيه وجهان : أحدهما : إلى الناس / كافة قال تعالى : يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ على أنفسهم، وثانيهما : إلى الفريقين في الذكر معناه : يضرب اللّه للناس أمثال الفريقين السابقين.
[سورة محمد (٤٧) : آية ٤]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)
ثم قال تعالى : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الفاء في قوله فَإِذا لَقِيتُمُ يستدعي متعلقا يتعلق به ويترتب عليه، فما وجه التعلق بما قبله؟ نقول هو من وجوه : الأول : لما بيّن أن الذين كفروا أضل اللّه أعمالهم واعتبار الإنسان بالعمل، ومن لم يكن له عمل فهو همج فإن صار مع ذلك يؤذي حسن إعدامه فَإِذا لَقِيتُمُ بعد ظهور أن لا حرمة لهم وبعد إبطال أعمالهم، فاضربوا أعناقهم الثاني : إذا تبين تباين الفريقين وتباعد الطريقين، وأن أحدهما يتبع الباطل وهو حزب الشيطان، والآخر يتبع الحق وهو حزب الرحمن حق القتال عند التحزب، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم الثالث : أن من الناس من يقول لضعف قلبه وقصور نظره إيلام الحيوان من الظلم والطغيان، ولا سيما القتل الذي هو تخريب بنيان، فيقال ردا عليهم : لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل فمن يقتل في سبيل اللّه لتعظيم أمر اللّه لهم من الأجر ما للمصلي والصائم، فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأخذكم بهما رأفة فإن ذلك اتباع للحق والاعتبار به لا بصورة الفعل.
المسألة الثانية : فَضَرْبَ منصوب على المصدر، أي فاضربوا ضرب الرقاب.


الصفحة التالية
Icon