مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٤٠
في معنى ذلك وجهان أحدهما : الأمر ذلك والمبتدأ محذوف ويحتمل أن يقال ذلك واجب أو مقدم، كما يقول القائل إن فعلت فذاك أي فذاك مقصود ومطلوب، ثم بيّن أن قتالهم ليس طريقا متعينا بل اللّه لو أراد أهلكهم من غير جند.
قوله تعالى : وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.
أي ولكن ليكلفكم فيحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر. فإن قيل ما التحقيق في قولنا التكليف ابتلاء وامتحان واللّه يعلم السر وأخفى، وماذا يفهم من قوله وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ؟ نقول فيه وجوه الأول : أن المراد منه يفعل ذلك فعل المبتلين أي كما يفعل المبتلى المختبر، ومنها أن اللّه تعالى يبلو ليظهر الأمر لغيره إما للملائكة وإما للناس، والتحقيق هو أن الابتلاء والامتحان والاختبار فعل يظهر بسببه أمر غير متعين عند العقلاء بالنظر إليه قصدا إلى ظهوره، وقولنا فعل يظهر بسببه أمر ظاهر الدخول في مفهوم الابتداء، لأن ما لا يظهر بسببه شيء أصلا لا يسمى ابتلاء، أما قولنا أمر غير متعين عند العقلاء، وذلك لأن من يضرب بسيفه على القثاء والخيار لا يقال إنه يمتحن، لأن الأمر الذي يظهر منه متعين وهو القطع والقد بقسمين، فإذا ضرب بسيفه سبعا يقال يمتحن بسيفه ليدفع عن نفسه وقد يقده وقد لا يقده، وأما قولنا ليظهر منه ذلك فلأن من يضرب سبعا بسيفه ليدفعه عن نفسه لا يقال إنه ممتحن لأن ضربه ليس لظهور أمر متعين، إذا علم هذا فنقول اللّه تعالى إذا أمرنا بفعل يظهر بسببه أمر غير متعين، وهو إما الطاعة أو المعصية في العقول ليظهر ذلك يكون ممتحنا، وإن كان عالما به لكون عدم العلم مقارنا فينا لابتلائنا فإذا ابتلينا وعدم العلم فينا مستمر أمرنا وليس من ضرورات الابتلاء، فإن قيل الابتلاء فائدته حصول العلم عند المبتلى، فإذا كان اللّه تعالى عالما فأية فائدة فيه؟
نقول ليس هذا سؤال يختص بالابتلاء، فإن قول القائل : لم ابتلى كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مستغن، ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر؟ وجوابه : لا يسأل عما يفعل، ونقول حينئذ ما قاله المتقدمون إنه لظهور الأمر المتعين لإله، وبعد هذا فنقول : المبتلى لا حاجة له إلى الأمر الذي يظهر من الابتلاء، فإن الممتحن للسيف فيما ذكرنا من الصورة لا حاجة له إلى قطع ما يجرب السيف فيه حتى أنه لو كان محتاجا، كما ضربنا من مثال دفع السبع بالسيف لا يقال إنه يمتحن وقوله لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ إشارة إلى عدم الحاجة تقريرا لقوله ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ.
ثم قال تعالى : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ.
قرئ قتلوا وقاتلوا والكل مناسب لما تقدم، أما من قرأ قتلوا فلأنه لما قال : فَضَرْبَ الرِّقابِ ومعناه فاقتلوهم بين ما للقاتل بقوله وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ردا على من زعم أن القتل فساد محرم إذ هو إفناء من هو مكرم، فقال عملهم ليس كحسنة الكافر يبطل بل هو فوق حسنات الكافر أضل اللّه أعمال الكفار، ولن يضل القاتلين، فكيف يكون القتل سيئة، وأما من قرأ قاتلوا فهو أكثر فائدة وأعم تناولا، لأنه يدخل فيه من سعى في القتل سواء قتل أو لم يقتل، وأما من قرأ وَالَّذِينَ قُتِلُوا على البناء للمفعول فنقول هي مناسبة لما تقدم من وجوه أحدها : هو أنه تعالى / لما قال : فَضَرْبَ الرِّقابِ أي اقتلوا والقتل لا يتأتى إلا بالإقدام وخوف أن يقتل المقدم يمنعه من الإقدام، فقال لا تخافوا القتل فإن من يقتل في سبيل اللّه له من الأجر والثواب ما لا يمنع المقاتل من القتال بل يحثه عليه وثانيها : هو أنه تعالى لما قال : لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ


الصفحة التالية
Icon