مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٤٥
وقوله تعالى : كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ يحتمل وجوها أحدها : أن الأنعام يهمها الأكل لا غير والكافر كذلك والمؤمن يأكل ليعمل صالحا ويقوى عليه وثانيها : الأنعام لا تستدل بالمأكول على خالقها والكافر كذلك وثالثها : الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن الأمر، لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك، وكذلك الكافر ويناسب ذلك قوله تعالى : وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ.
المسألة الرابعة : قال في حق المؤمن إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بصيغة الوعد، وقال في حق الكافر وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ بصيغة تنبئ عن الاستحقاق لما ذكرنا أن الإحسان لا يستدعي أن يكون عن استحقاق، فالمحسن إلى من لم يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم، والمعذب من غير استحقاق ظالم.
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٣]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣)
لما ضرب اللّه تعالى لهم مثلا بقوله أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [محمد : ١٠] ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبي عليه السلام مثلا تسلية له فقال : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ وكانوا أشد من أهل مكة كذلك نفعل بهم، فاصبر كما صبر رسلهم، وقوله فَلا ناصِرَ لَهُمْ قال الزمخشري كيف قوله فَلا ناصِرَ لَهُمْ مع أن الإهلاك ماض، وقوله فَلا ناصِرَ لَهُمْ للحال والاستقبال؟
والجواب أنه محمول على الحكاية والحكاية كالحال الحاضر، ويحتمل أن يقال أهلكناهم في الدنيا فلا ناصر لهم ينصرهم ويخلصهم من العذاب الذي هم فيه، ويحتمل أن يقال قوله فَلا ناصِرَ لَهُمْ عائد إلى أهل قرية محمد عليه السلام كأنه قال أهلكنا من تقدم أهل قريتك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويخلصهم مما جرى على الأولين ثم قال تعالى :
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٤]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
اعلم أن هذا إشارة إلى الفرق بين النبي عليه السلام والكفار ليعلم أن إهلاك الكفار ونصرة / النبي عليه السلام في الدنيا محقق، وأن الحال يناسب تعذيب الكافر وإثابة المؤمن، وقوله عَلى بَيِّنَةٍ فرق فارق، وقوله مِنْ رَبِّهِ مكمل له، وذلك أن البينة إذا كانت نظرية تكون كافية للفرق بين المتمسك بها وبين القائل قولا لا دليل عليه، فإذا كانت البينة منزلة من اللّه تعالى تكون أقوى وأظهر فتكون أعلى وأبهر، ويحتمل أن يقال قوله مِنْ رَبِّهِ ليس المراد إنزالها منه بل المراد كونها من الرب بمعنى قوله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [المدثر : ٣١] وقولنا الهداية من اللّه، وكذلك قوله تعالى : كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرق فارق، وقوله وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ تكملة وذلك أن من زين له سوء عمله وراجت الشبهة عليه في مقابلة من يتبين له البرهان وقبله، لكن من راجت الشبهة عليه قد يتفكر في الأمر ويرجع إلى الحق، فيكون أقرب إلى من هو على البرهان، وقد يتبع هواه ولا يتدبر في البرهان ولا يتفكر في البيان فيكون في غاية البعد، فإذن حصل النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمن مع الكافر في طرفي التضاد وغاية التباعد حتى مدهم بالبينة، والكافر له الشبهة وهو مع اللّه وأولئك مع الهوى وعلى قولنا مِنْ رَبِّهِ معناه الإضافة إلى اللّه، كقولنا الهداية من اللّه، فقوله اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ مع ذلك القول يفيد معنى قوله تعالى : ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء : ٧٩] وقوله كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بصيغة التوحيد محمول على لفظة من، وقوله وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ محمول على معناه فإنها للجميع والعموم،


الصفحة التالية
Icon