مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٤٧
اللبن فيه الدسم الكائن في غيره وهو طيب للأكل وبه تغذية الحيوان أولا فذكره اللّه تعالى، وأما ما يشرب لا لأمر عائد إلى الطعم فالماء والخمر فإن الخمر فيها أمر يشربها الشارب لأجله، هي كريهة الطعم باتفاق من يشربها وحصول التواتر به ثم عرى كل واحد من الأشياء الأربعة عن صفات النقص التي هي فيها وتتغير بها الدنيا فالماء يتغير يقال أسن الماء يأسن على وزن أمن يأمن فهو آسن وأسن اللبن إذا بقي زمانا تغير طعمه، والخمر يكرهه الشارب عند الشرب، والعسل يشوبه أجزاء من الشمع ومن النحل يموت فيه كثيرا، ثم إن اللّه تعالى خلط الجنسين فذكر الماء الذي يشرب لا للطعم وهو عام الشرب، وقرن به اللبن الذي يشرب لطعمه وهو عام الشرب إذ ما من أحد إلا وكان شربه اللبن، ثم ذكر الخمر الذي يشرب لا للطعم وهو قليل الشرب، وقرن به العسل الذي يشرب للطعم وهو قليل الشرب، فإن قيل العسل / لا يشرب، نقول شراب الجلاب لم يكن إلا من العسل والسكر قريب الزمان، ألا ترى أن السكنجبين من «سركه وانكبين» وهو الخل والعسل بالفارسية كما أن استخراجه كان أولا من الخل والعسل ولم يعرف السكر إلا في زمان متأخر، ولأن العسل اسم يطلق على غير عسل النحل حتى يقال عسل النحل للتمييز «١» واللّه أعلم.
المسألة الثانية : قال في الخمر لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفى للناظرين لأن اللذة تختلف باختلاف الأشخاص فرب طعام يلتذ به شخص ويعافه الآخر، فقال :
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ بأسرهم ولأن الخمر كريهة الطعم فقال : لَذَّةٍ أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم، وأما الطعم واللون فلا يختلفان باختلاف الناس، فإن الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد كذلك، لكنه قد يعافه بعض الناس ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أن له طعما واحدا وكذلك اللون فلم يكن إلى التصريح بالتعميم حاجة، وقوله لَذَّةٍ يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون تأنيث لذ يقال طعام لذ ولذيذ وأطعمة لذة ولذيذة وثانيهما : أن يكون ذلك وصفا بنفس المعنى لا بالمشتق منه كما يقال للحليم هو حلم كله وللعاقل كله.
ثم قال تعالى : وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ.
بعد ذكر المشروب أشار إلى المأكول، ولما كان في الجنة الأكل للذة لا للحاجة ذكر الثمار فإنها تؤكل للذة بخلاف الخبز واللحم، وهذا كقوله تعالى في سورة الرعد مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرعد : ٣٥] حيث أشار إلى المأكول والمشروب، وهاهنا لطيفة وهي أنه تعالى قال فيها وَظِلُّها ولم يقل هاهنا ذلك، نقول قال هاهنا وَمَغْفِرَةٌ والظل فيه معنى الستر والمغفرة كذلك، ولأن المغفور تحت نظر من رحمة الغافر يقال نحن تحت ظل الأمير، وظلها هو رحمة اللّه ومغفرته حيث لا يمسهم حر ولا برد.
المسألة الثالثة : المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة فكيف يكون لهم فيها مغفرة؟ فنقول الجواب عنه من وجهين : الأول : ليس بلازم أن يكون المعنى لهم مغفرة من ربهم فيها، بل يكون عطفا على قوله (لهم) كأنه تعالى قال لهم الثمرات فيها ولهم المغفرة قبل دخولها والثاني : هو أن يكون المعنى لهم فيها مغفرة أي رفع

(١) كانت العرب تشرب العسل ممزوجا بالماء، وقد شربه الرسول كذلك وأمر بأن يسقي مريض البطن عسلا، والأحاديث الدالة على هذا كثيرة، والمراد به في كلها عسل النحل والعسل إذا أطلق لا يراد إلا عسل النحل كما أنه لم يسمه إلا عسلا بدون إضافة.


الصفحة التالية
Icon