مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٥٠
يكون هذا صفة مدح لهم، وهو ذكرهم في معرض الذم، نقول يتميز بما بعده، وهو أحد أمرين : إما كونهم بذلك مستهزئين، كالذكي يقول للبليد : أعد كلامك حتى أفهمه، ويرى في نفسه أنه مستمع إليه غاية الاستماع، وكل أحد يعلم أنه مستهزىء غير مستفيد ولا مستعيد، وإما كونهم لا يفهمون مع أنهم يستمعون ويستعيدون، ويناسب هذا الثاني قوله تعالى : كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ [الأعراف : ١٠١]، والأول : يؤكده قوله تعالى : وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ
[البقرة : ١٤]. والثاني : يؤكده قوله تعالى : قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات : ١٤] وقوله آنِفاً قال بعض المفسرين : معناه الساعة، ومنه الاستئناف وهو الابتداء، فعلى هذا فالأولى أن يقال يقولون ماذا قال آنفا بمعنى أنهم يستعيدون كلامه من الابتداء، كما يقول المستعيد للمعيد : أعد كلامك من الابتداء حتى لا يفوتني شيء منه.
ثم قال تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.
أي تركوا اتباع الحق إما بسبب عدم الفهم، أو بسبب عدم الاستماع للاستفادة واتبعوا ضده ثم قال تعالى :
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٧]
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)
لما بيّن اللّه تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع، ويستعيد ولا يستفيد، بين أن حال المؤمن المهتدي بخلافه، فإنه يستمع فيفهم، ويعمل بما يعلم، والمنافق يستعيد، والمهتدي يفسر ويعيد، وفيه فائدتان إحداهما :
ما ذكرنا من بيان التباين بين الفريقين وثانيهما : قطع عذر المنافق وإيضاح كونه مذموم الطريقة، فإنه لو قال ما فهمته لغموضه وكونه معمى، يرد عليه ويقول ليس / كذلك، فإن المهتدي فهم واستنبط لوازمه وتوابعه، فذلك لعماء القلوب، لا لخفاء المطلوب وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفاعل للزيادة في قوله زادَهُمْ؟ نقول فيه وجوه الأول : المسموع من النبي عليه الصلاة والسلام من كلام اللّه وكلام الرسول يدل عليه قوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [محمد : ١٦] فإنه يدل على مسموع، والمقصود بيان التباين بين الفريقين، فكأنه قال : هم لم يفهموه، وهؤلاء فهموه والثاني : أن اللّه تعالى زادهم ويدل عليه قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [محمد : ١٦] وكأنه تعالى طبع على قلوبهم فزادهم عمى، والمهتدين زاده هدى والثالث : استهزاء المنافق زاد المهتدي هدى، ووجهه أنه تعالى لما قال : وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ قال : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ اتباعهم الهدى هدى، فإنهم استقبحوا فعلهم فاجتنبوه.
المسألة الثانية : ما معنى قوله وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ؟ نقول فيه وجوه منقولة ومستنبطة، أما المنقولة فنقول :
قيل فيه إن المراد آتاهم ثواب تقواهم، وقيل آتاهم نفس تقواهم من غير إضمار، يعني بيّن لهم التقوى، وقيل آتاهم توفيق العمل بما علموا. وأما المستنبط فنقول : يحتمل أن يكون المراد به بيان حال المستمعين للقرآن الفاهمين لمعانيه المفسرين له بيانا لغاية الخلاف بين المنافق، فإنه استمع ولم يفهمه، واستعاد ولم يعلمه، والمهتدي فإنه علمه وبينه لغيره، ويدل عليه قوله تعالى : زادَهُمْ هُدىً ولم يقل اهتداء، والهدى مصدر من هدى، قال اللّه تعالى : فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام : ٩٠] أي خذ بما هدوا واهتد كما هدوا، وعلى هذا فقوله


الصفحة التالية
Icon