مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٥٨
تعالى قابل الأمرين فقال : يضربون وجوههم حيث أقبلوا على سخط اللّه، فإن المتسع للشيء متوجه إليه، ويضربون أدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا اللّه، فإن الكاره للشيء يتولى عنه، وما أسخط اللّه يحتمل وجوها الأول : إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام ورضوانه الإقرار به والإسلام الثاني : الكفر هو ما أسخط اللّه والإيمان يرضنيه يدل عليه قوله تعالى : إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر : ٧] وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ إلى أن قال : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة : ٧، ٨] الثالث : ما أسخط اللّه تسويل الشيطان، ورضوان اللّه التعويل على البرهان والقرآن، فإن قيل هم ما كانوا يكرهون رضوان اللّه، بل كانوا يقولون : إن ما نحن عليه فيه رضوان اللّه، ولا نطلب إلا رضاء اللّه، وكيف لا والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون : إنا نطلب رضاء اللّه. كما قالوا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر : ٣] وقالوا فَيَشْفَعُوا لَنا [الأعراف : ٥٣] فنقول معناه كرهوا ما فيه رضاء اللّه تعالى.
وفيه لطيفة وهي أن اللّه تعالى قال : ما أَسْخَطَ اللَّهَ ولم يقل : ما أرضى اللّه «١» وذلك لأن رحمة اللّه سابقة، فله رحمة ثابتة وهي منشأ الرضوان، وغضب اللّه متأخر فهو يكون على ذنب، فقال : رِضْوانَهُ لأنه وصف ثابت للّه سابق، ولم يقل سخط اللّه، بل ما أَسْخَطَ اللَّهَ إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان، ولهذا المعنى قال في اللعان في حق المرأة وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور : ٩] يقال : غضب اللّه مضافا لأن لعانه قد سبق مظهر الزنا بقوله وأيمانه، وقبله لم يكن للّه غضب، ورضوان اللّه أمر يكون منه الفعل، وغضب اللّه أمر يكون من فعله، ولنضرب له مثالا : الكريم الذي رسخ الكرم في نفسه يحمله الكرم على الأفعال الحسنة، فإذا كثر من السيء الإساءة فغضبه لا لأمر يعود إليه، بل غضبه عليه يكون لإصلاح / حالة، وزجرا لأمثاله عن مثل فعاله، فيقال هو كان الكريم فكرمه لما فيه من الغريزة الحسنة، لكن فلانا أغضبه وظهر منه الغضب، فيجعل الغضب ظاهرا من الفعل، والفعل الحسن ظاهرا من الكرم، فالغضب في الكريم بعد فعل، والفعل منه بعد كرم، ومن هذا يعرف لطف قوله ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ.
ثم قال تعالى : فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ حيث لم يطلبوا إرضاء اللّه، وإنما طلبوا إرضاء الشيطان والأصنام.
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٩]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩)
هذا إشارة إلى المنافقين وأَمْ تستدعي جملة أخرى استفهامية إذا كانت للاستفهام، لأن كلمة أَمْ إذا كانت متصلة استفهامية تستدعي سبق جملة أخرى استفهامية، يقال أزيد في الدار أم عمرو، وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك، يقال إن هذا لزيد أم عمرو، وكما يقال بل عمرو، والمفسرون على أنها منقطعة، ويحتمل أن يقال إنها استفهامية، والسابق مفهوم من قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فكأنه تعالى قال :
أحسب الذين كفروا أن لن يعلم اللّه إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها والكل قاصر، وإنما يعلمها ويظهرها، ويؤيد هذا أن المتقطعة لا تكاد تقع في صدر الكلام فلا يقال ابتداء، بل جاء زيد، ولا أم جاء عمرو، والإخراج بمعنى الإظهار فإنه إبراز، والأضغان هي الحقود والأمراض، واحدها ضغن. ثم قال تعالى :

(١) يعني أنه تعالى قال : وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ ولم يقل : وكرهوا ما أرضى اللّه، وليس في مقابلة قوله ما أَسْخَطَ اللَّهَ كما هو المتبادر من قول المفسر.


الصفحة التالية
Icon