مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٦٣
الفاء في قوله فَيُحْفِكُمْ للإشارة إلى أن الإحفاء يتبع السؤال بيانا لشح الأنفس، وذلك لأن العطف بالواو قد يكون للمثلين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى بيّن أن الإحفاء يقع عقيب السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئا وقوله تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم، كيف وأنتم تبخلون باليسير لا تبخلون بالكثير وقوله وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ يعني بسببه فإن الطالب وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه يطلبونكم وأنتم لمحبة المال وشح الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن / ثم قال تعالى :
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣٨]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
[يعني ] قد طلبت منكم اليسير فبخلتم فكيف لو طلبت منكم الكل وقوله هؤُلاءِ يحتمل وجهين.
أحدهما : أن تكون موصولة كأنه قال : أنتم هؤلاء الذين تدعون لتنفقوا في سبيل اللّه وثانيهما : هؤُلاءِ وحدها خبر أنتم كما يقال أنت هذا تحقيقا للشهرة والظهور أي ظهر أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمر مغاير ثم يبتدئ تُدْعَوْنَ وقوله تُدْعَوْنَ أي إلى الإنفاق إما في سبيل اللّه تعالى بالجهاد، وإما في صرفه إلى المستحقين من إخوانكم، وبالجملة ففي الجهتين تخذيل الأعداء ونصرة الأولياء فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، ثم بيّن أن ذلك البخل ضرر عائد إليه فلا تظنوا أنهم لا ينفقونه على غيرهم بل لا ينفقونه على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة الطبيب وثمن الداء وهو مريض فلا يبخل إلا على نفسه، ثم حقق ذلك بقوله وَاللَّهُ الْغَنِيُّ غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ حتى لا تقولوا إنا أيضا أغنياء عن القتال، ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه لولا القتال لقتلوا، فإن الكافر إن يغز يغز، والمحتاج إن لم يدفع حاجته يقصده، لا سيما أباح الشارع للمضطر ذلك، وأما في الآخرة فظاهر فكيف لا يكون فقيرا وهو موقوف مسؤول يوم لا ينفع مال ولا بنون.
ثم قال تعالى : وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بيان الترتيب من وجهين :
أحدهما : أنه ذكره بيانا للاستغناء، كما قال تعالى : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم : ١٩] وقد ذكر أن هذا تقرير بعد التسليم، كأنه تعالى يقول : اللّه غني عن العالم بأسره فلا حاجة له إليكم. فإن كان ذاهب يذهب إلى أن ملكه بالعالم وجبروته يظهر به وعظمته بعباده، فنقول هب أن هذا الباطل حق لكنكم غير متعينين له، بل اللّه قادر على أن يخلق خلقا غيركم يفتخرون بعبادته، وعالما غير هذا يشهد بعظمته وكبريائه وثانيهما :
أنه تعالى لما بيّن الأمور وأقام عليها البراهين وأوضحها بالأمثلة قال إن أطعتم فلكم أجوركم وزيادة وإن تتولوا لم يبق لكم إلا الإهلاك فإن ما من نبي أنذر قومه وأصروا على تكذيبه إلا وقد حق عليهم القول بالإهلاك وطهر اللّه الأرض منهم وأتى بقوم آخرين طاهرين، وقوله ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فيه مسألة نحوية يتبين منها فوائد عزيزة وهي :/ أن النحاة قالوا : يجوز في المعطوف على جواب الشرط بالواو والفاء وثم، الجزم والرفع جميعا، قال اللّه تعالى هاهنا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بالجزم، وقال في موضع آخر وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران : ١١١] بالرفع بإثبات النون وهو مع الجواز،


الصفحة التالية
Icon