مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٧
على الأمر بعبادة هذه الأوثان، إما أن يكون على محمد أو في سائر الكتب الإلهية المنزلة على سائر الأنبياء، وإن لم يوجد ذلك في الكتب الإلهية لكنه من تقابل العلوم المنقولة عنهم والكل باطل، أما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم فهو معلوم البطلان، وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه، فهو أيضا باطل، لأنه علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب الإلهية على المنع من عبادة الأصنام، وهذا هو المراد من قوله تعالى : ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا، وأما إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء سوى ما جاء في الكتب فهذا أيضا باطل، لأن العلم الضروري حاصل بأن أحدا من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام، وهذا هو المراد من قوله أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ولما بطل الكل ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل وقول فاسد وبقي في قوله تعالى : أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ نوعان من البحث.
النوع الأول : البحث اللغوي قال أبو عبيدة والفراء والزجاج أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية وقال المبرد أَثارَةٍ ما يؤثر من علم أي بقية، وقال المبرد أَثارَةٍ تؤثر مِنْ عِلْمٍ كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان، ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار يقال جاء في الأثر كذا وكذا، قال الواحدي : وكلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال : الأول : البقية واشتقاقها من أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار الثاني : من الأثر الذي هو الرواية والثالث : هو الأثر بمعنى العلامة، قال صاحب «الكشاف» وقرئ أثرة أي من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم وقرئ أثرة بالحركات الثلاث مع سكون الثاء فالإثرة بالكسر بمعنى الأثر، وأما الإثر فالمرأة من مصدر أثر الحديث إذا رواه، وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر كالخطبة اسم لما يخطب به، وهاهنا قول آخر في تفسير قوله تعالى : أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ / وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال : أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :«كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه»
وعلى هذا الوجه فمعنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام، فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم واللّه تعالى أعلم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٥ إلى ٨]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)
اعلم أنه تعالى بيّن فيما سبق أن القول بعبادة الأصنام قول باطل، من حيث إنها لا قدرة لها ألبتة على الخلق والفعل والإيجاد والإعدام والنفع والضر، فأردفه بدليل آخر يدل على بطلان ذلك المذهب، وهي أنها جمادات فلا تسمع دعاء الداعين، ولا تعم حاجات المحتاجين، وبالجملة فالدليل الأول كان إشارة إلى نفي العلم من كل الوجوه، وإذا انتفى العلم والقدرة من كل الوجوه لم تبق عبادة معلومة ببديهة العقل فقوله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أنه لا أمرا أبعد عن الحق، وأقرب إلى


الصفحة التالية
Icon