مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٧٦
يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
[الفتح : ١٨] فلا يكونون من الذين غضب اللّه عليهم فيلزم تبديل كلام اللّه ثالثها : هو أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما تخلف القوم أطلعه اللّه على باطنهم وأظهر له نفاقهم وأنه يريد أن يعاقبهم وقال للنبي صلى اللّه عليه وسلم فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة : ٨٣] فأرادوا أن يبدلوا ذلك الكلام بالخروج معه، لا يقال فالآية / التي ذكرتم واردة في غزوة تبوك لا في هذه الواقعة، لأنا نقول قد وجد هاهنا بقوله لَنْ تَتَّبِعُونا على صيغة النفي بدلا عن قوله : لا تتبعونا، على صيغة النهي معنى لطيف وهو أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بنى على إخبار اللّه تعالى عنهم النفي لوثوقه وقطعه بصدقه فجزم وقال : لَنْ تَتَّبِعُونا يعني لو أذنتكم ولو أردتم واخترتم لا يتم لكم ذلك لما أخبر اللّه تعالى.
ثم قال تعالى : فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا.
ردا على قوله تعالى : كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ كأنهم قالوا : ما قال اللّه كذلك من قبل، بل تحسدوننا، وبل للاضراب والمضروب عنه محذوف في الموضعين، أما هاهنا فهو بتقدير ما قال اللّه وكذلك، فإن قيل بما ذا كان الحسد في اعتقادهم؟ نقول كأنهم قالوا نحن كنا مصيبين في عدم الخروج حيث رجعوا من الحديبية من غير حاصل ونحن استرحنا، فإن خرجنا معهم ويكون فيه غنيمة يقولون هم غنموا معنا ولم يتعبوا معنا.
ثم قال تعالى ردا عليهم كما ردوا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي لم يفقهوا من قولك لا تخرجوا إلا ظاهر النهي ولم يفهموا من حكمه إلا قليلا فحملوه على ما أرادوه وعللوه بالحسد. ثم قال تعالى :
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٦]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦)
لما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح : ١٥] وقال : فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة : ٨٣] فكان المخلفون جمعا كثيرا، من قبائل متشعبة، دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم فإنهم لم يبقوا على ذلك ولم يكونوا من الذين مردوا على النفاق، بل منهم من حسن حاله وصلح باله فجعل لقبول توبتهم علامة، وهو أنهم يدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد ويطيعون بخلاف حال ثعلبة حيث امتنع من أداء الزكاة ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي صلى اللّه عليه وسلم واستمر عليه الحال ولم يقبل منه أحد من الصحابة، كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أنه تعالى بيّن أنهم يدعون فإن كانوا يطيعون يؤتون الأجور الحسن وما كان أحد من الصحابة يتركهم يتبعونه، والفرق بين حال ثعلبة / وبين حال هؤلاء من وجهين أحدهما : أن ثعلبة جاز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم اللّه، فلم يبين لتوبته علامة، والأعراب تغيرت، فإن بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يبق من المنافقين على النفاق أحد على مذهب أهل السنة وثانيهما : أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير والجم الغفير أمس، لأنه لولا البيان لكان يفضي الأمر إلى قيام الفتنة بين فرق المسلمين، وفي قوله سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وجوه أشهرها وأظهرها أنهم بنو حنيفة حيث تابعوا مسيلمة وغزاهم أبو بكر وثانيها : هم فارس والروم غزاهم عمر ثالثها :
هوازن وثقيف غزاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأقوى الوجوه هو أن الدعاء كان من النبي صلى اللّه عليه وسلم وإن كان الأظهر غيره، أما الدليل على قوة هذا الوجه هو أن أهل السنة اتفقوا على أن أمر العرب في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم ظهر ولم يبق إلا كافر مجاهر، أو مؤمن تقي طاهر، وامتنع النبي صلى اللّه عليه وسلم من الصلاة على موتى المنافقين، وترك المؤمنون مخالطتهم حتى


الصفحة التالية
Icon