مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٩٤
يلقى نفسه في التهلكة لإنجاء سيده، ويجب لإنجاء النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكرنا حقيقته عند تفسير الآية، وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره، لأن عند خلل القلب مثلا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي عليه الصلاة والسلام لهلك هو أيضا بخلاف العبد والسيد.
الفائدة الثانية : أن قوله تعالى : لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ لما كان من جنس لا تَجْهَرُوا لم يستأنف النداء، ولما كان هو يخالف التقدم لكون أحدهما فعلا والآخر قولا استأنف كما في قول لقمان يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ [لقمان : ١٣] وقوله يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان : ١٧] لكون الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح، وقوله يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ من غير استئناف النداء لأن الكل من عمل الجوارح.
واعلم أنا إن قلنا المراد من قوله لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ أي لا تكثروا الكلام فقوله وَلا تَجْهَرُوا يكون مجازا عن الإتيان بالكلام عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بقدر ما يؤتى به عند غيره، أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل، وكذلك إن قلنا المراد بالرفع الخطاب فالمراد بقوله لا تَجْهَرُوا أي لا تخاطبوه كما تخاطبون غيره وقوله تعالى : أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ فيه وجهان مشهوران : أحدهما : لئلا تحبط والثاني : كراهة أن تحبط، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى : يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء : ١٧٦] وأمثاله، ويحتمل هاهنا وجها آخر وهو أن يقال معناه : واتقوا اللّه واجتنبوا أن تحبط أعمالكم، والدليل على هذا أن الإضمار لما لم يكن منه بد فما دل عليه الكلام الذي هو فيه أولى أن يضمر والأمر بالتقوى قد سبق في قوله تعالى : وَاتَّقُوا [الحجرات : ١] وأما المعنى فنقول قوله أَنْ تَحْبَطَ إشارة إلى أنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتكم تتمكن منكم هذه الرذائل وتؤدي إلى الاستحقار، وإنه يفضي إلى الانفراد والارتداد المحبط وقوله تعالى : وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن الردة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان، فإن من ارتكب ذنبا لم يرتكبه في عمره تراه نادما غاية الندامة خائفا غاية الخوف فإذا ارتكبه مرارا يقل الخوف والندامة ويصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن، وهذا كأن للتمكن في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما أن من بلغه خبر فإنه لا يقطع بقول المخبر في المرة الأولى، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ حد التواتر يحصل له اليقين ويتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك، وعند أي خبر حصل هذا اليقين، فقوله وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تعفي ولا توجب رده، لأن الأمر غير معلوم فاحسموا الباب، وفيه بيان آخر وهو أن المكلف إذا لم
يحترم النبي صلى اللّه عليه وسلم ويجعل نفسه مثله فيما يأتي به بناء على أمره يكون كما يأتي به بناء على أمر نفسه، لكن ما تأمر به النفس لا يوجب الثواب وهو محبط حابط، كذلك ما يأتي به بغير أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم حينئذ حابط محبط واللّه أعلم.
واعلم أن اللّه تعالى لما أمر المؤمنين باحترام النبي صلى اللّه عليه وسلم وإكرامه وتقديمه على أنفسهم وعلى كل من خلقه اللّه تعالى أمر نبيه عليه السلام بالرأفة والرحمة، وأن يكون أرأف بهم من الوالد، كما قال : وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر : ٨٨] وقال تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف : ٢٨] وقال : وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم : ٤٨] إلى غير ذلك لئلا تكون خدمته خدمة الجبارين الذين يستعبدون الأحرار بالقهر فيكون انقيادهم لوجه اللّه.


الصفحة التالية
Icon