مفاتيح الغيب، ج ٢٨، ص : ٩٩
في جانب الثبوت، فلنذكر بيانه بالمثال ودليله، أما بيانه بالمثال فنقول : إذا قال قائل لعبده : إن كلمت رجلا فأنت حر، فيكون كأنه قال : لا أكلم رجلا حتى يعتق بتكلم كل رجل، وإذا قال : إن لم أكلم اليوم رجلا فأنت حر، يكون كأنه قال : لا أكلم اليوم رجلا حتى لا يعتق العبد بترك كلام كل رجل، كما لا يظهر الحلف في كلامه بكلام كل رجل إذا ترك الكلام مع رجل واحد، وأما الدليل فلأن النظر أولا إلى جانب الإثبات، ألا ترى أنه من غير حرف لما أن الوضع للاثبات والنفي بحرف، فقول القائل : زيد قائم، وضع أولا ولم يحتج إلى أن يقال مع ذلك حرف يدل على ثبوت القيام لزيد، وفي جانب النفي احتجنا إلى أن نقول : زيد ليس بقائم، ولو كان الوضع والتركيب أولا للنفي، لما احتجنا إلى الحرف الزائد اقتصارا أو اختصارا، وإذا كان كذلك فقول القائل : رأيت رجلا، يكفي فيه ما يصحح القول وهو رؤية واحد، فإذا قلت : ما رأيت رجلا، وهو وضع لمقابلة قوله : رأيت رجلا، وركب لتلك المقابلة، والمتقابلان ينبغي أن لا يصدقا، فقول القائل : ما رأيت رجلا، لو كفى فيه انتفاء الرؤية عن غير واحد لصح قولنا : رأيت رجلا، وما رأيت رجلا، فلا يكونان متقابلين، فيلزمنا من الاصطلاح الأول الاصطلاح الثاني، ولزم منه العموم في جانب النفي، إذا علم هذا فنقول : الشرطية وضعت أولا، ثم ركبت بعد الجزمية بدليل زيادة الحرف وهو في مقابلة الجزمية، وكان قول القائل : إذا لم تكن أنت حرا ما كلمت رجلا يرجع إلى معنى النفي، وكما علم عموم القول في الفاسق علم عمومه في النبأ فمعناه : أي فاسق جاءكم بأي نبأ، فالتثبت فيه واجب.
المسألة الرابعة : متمسك أصحابنا في أن خبر الواحد حجة، وشهادة الفاسق لا تقبل، أما في المسألة الأولى فقالوا علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقا، ولو كان خبر الوحد العدل لا يقبل، لما كان للترتيب على الفاسق فائدة، وهو من باب التمسك بالمفهوم. وأما في الثانية فلوجهين : أحدهما : أمر بالتبين، فلو قبل قوله لما كان الحاكم مأمورا بالتبين، فلم يكن قول الفاسق مقبولا، ثم إن اللّه تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ، وباب الشهادة أضيف من باب الخبر والثاني : هو أنه تعالى قال : أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ والجهل فوق الخطأ، لأن المجتهد إذ أخطأ لا يسمى جاهلا، والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل فلا يكون البناء على قوله جائزا.
المسألة الخامسة : أَنْ تُصِيبُوا ذكرنا فيها وجهين أحدهما : مذهب الكوفيين، وهو أن المراد لئلا تصيبوا، وثانيها : مذهب البصريين، وهو أن المراد كراهة أن تصيبوا، ويحتلم أن يقال : المراد فتبينوا واتقوا، وقوله تعالى : أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً يبين ما ذكرنا أن يقول الفاسق : تظهر الفتن بين أقوام، ولا كذلك بالألفاظ المؤذية في الوجه، والغيبة الصادرة من المؤمنين، لأن المؤمن يمنعه دينه من الإفحاش والمبالغة في الإيحاش، وقوله بِجَهالَةٍ في تقدير حال، أي أن / تصيبوهم جاهلين وفيه لطيفة، وهي أن الإصابة تستعمل في السيئة والحسنة، كما في قوله تعالى : ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النساء : ٧٩] لكن الأكثر أنها تستعمل فيها يسوء، لكن الظن السوء يذكر معه، كما في قوله تعالى : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ [النساء : ٧٨] ثم حقق ذلك بقوله فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ بيانا لأن الجاهل لا بد من أن يكون على فعله نادما، وقوله فَتُصْبِحُوا معناه تصيروا، قال النحاة : أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه أحدها : بمعنى دخول الرجل في الصباح، كما يقول القائل : أصبحنا نقضي عليه وثانيها : بمعنى كان الأمر وقت الصباح كذا وكذا، كما يقول : أصبح اليوم مريضنا


الصفحة التالية
Icon