مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٢٩١
في هذه السورة : وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر : ٥٢، ٥٣]، ثالثها : هو جواب قولهم : سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي ليس أمره بذاهب بل كل أمر من أموره مستقر. ثم قال تعالى :
[سورة القمر (٥٤) : آية ٤]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
إشارة إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد، فأخبرهم الرسول باقتراب الساعة، و. أقام الدليل على صدقه، وإمكان قيام الساعة عقيب دعواه بانشقاق القمر الذي هو آية لأن من يكذب بها لا يصدق بشيء من الآيات فكذبوا بها واتبعوا الأباطيل الذاهبة، وذكروا الأقاويل الكاذبة فذكر لهم أنباء المهلكين بالآيتين تخويفا لهم، وهذا هو الترتيب الحكمي، ولهذا قال بعد الآيات : حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [القمر : ٥] أي هذه حكمة بالغة، والأنباء هي الأخبار العظام، ويدلك على صدقه أن في القرآن لم يرد النبأ والأنباء إلا لما له وقع قال : وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل : ٢٢] لأنه كان خبرا عظيما وقال : إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات : ٦] أي محاربة أو مسالمة وما يشبهه من الأمور العرفية، وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال، وكذلك قال تعالى : ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران : ٤٤] فكذلك الأنباء هاهنا، وقال تعالى عن موسى : لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ [القصص : ٢٩] حيث لم يكن يعلم أنه يظهر له شيء عظيم يصلح أن يقال له : نبأ / ولم يقصده، والظاهر أن المراد أنباء المهلكين بسبب التكذيب وقال بعضهم :
المراد القرآن، وتقديره جاء فيه الأنباء، وقيل قوله : جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ يتناول جميع ما ورد في القرآن من الزواجر والمواعظ وما ذكرناه أظهر لقوله : فِيهِ مُزْدَجَرٌ وفي : ما وجهان أحدهما : أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مزدجر ثانيهما : موصوفة تقديره : جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر وهذا أظهر والمزدجر فيه وجهان أحدهما ازدجار وثانيهما موضع ازدجار، كالمرتقى، ولفظ المفعول بمعنى المصدر كثير لأن المصدر هو المفعول الحقيقي.
[سورة القمر (٥٤) : آية ٥]
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥)
ثم قالتعالى : حِكْمَةٌ بالِغَةٌ وفيه وجوه الأول : على قول من قال : وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ المراد منه القرآن، قال : حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بدل كأنه قال : ولقد جاءهم حكمة بالغة ثانيها : أن يكون بدلا عن ما في قوله :
ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ الثاني : حكمة بالغة خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه حكمة بالغة والإشارة حينئذ تحتمل وجوها أحدها : هذا الترتيب الذي في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون وانقضى حكمة بالغة ثانيها : إنزال ما فيه الأنباء : حِكْمَةٌ بالِغَةٌ ثالثها : هذه الساعة المقتربة والآية الدالة عليها حكمة الثالث :
قرئ بالنصب فيكون حالا وذو الحال ما في قوله : ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي جاءكم ذلك حكمة، فإن قيل : إن كان ما موصولة تكون معرفة فيحسن كونه ذا الحال فأما إن كانت بمعنى جاءهم من الأنباء شيء فيه ازدجار يكون منكرا وتنكير ذي الحال قبيح نقول : كونه موصوفا يحسن ذلك.
وقوله : فَما تُغْنِ النُّذُرُ فيه وجهان أحدهما : أن ما نافية، ومعناه أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الحق، وإنما أرسلوا مبلغين وهو كقوله تعالى : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [الشورى :
٤٨] ويؤيد هذا قوله تعالى : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [القمر : ٦] أي ليس عليك ولا على الأنبياء الإغناء والإلجاء، فإذا


الصفحة التالية
Icon