مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٢٩٧
العين فار الماء بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء، ولو جرى جريا ضعيفا لما كان هو يلتقي مع ماء السماء بل كان ماء السماء يرد عليه ويتصل به، ولعل المراد من قوله : وَفارَ التَّنُّورُ [هود : ٤٠] مثل هذا.
وقوله تعالى : عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ فيه وجوه الأول : على حال قد قدرها اللّه تعالى كما شاء الثاني : على حال قدر أحد الماءين بقدر الآخر الثالث : على سائر المقادير، وذلك لأن الناس اختلفوا، فمنهم من قال : ماء السماء كان أكثر، ومنهم من قال : ماء الأرض، ومنهم من قال : كانا متساويين، فقال : على أي مقدار كان، والأول إشارة إلى عظمة أمر الطوفان، فإن تنكير الأمر يفيد ذلك، يقول القائل : جرى على فلان شيء لا يمكن أن يقال إشارة إلى عظمته، وفيه احتمال آخر، وهو أن يقال : التقى الماء، أي اجتمع على أمر هلاكهم، وهو كان مقدورا مقدرا، وفيه رد على المنجمين الذين يقولون إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة حول برج مائي، والغرق لم يكن مقصودا بالذات، وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه، فقال : لم يكن ذلك إلا لأمر قد قدر، ويدل عليه أن اللّه تعالى أوحى إلى نوح بأنهم من المغرقين وقوله تعالى :
[سورة القمر (٥٤) : آية ١٣]
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
أي سفينة، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، إشارة إلى أنها كانت من ألواح مركبة موثقة بدثر، وكان انفكاكها في غاية السهولة، ولم يقع فهو بفضل اللّه، والدسر المسامير.
[سورة القمر (٥٤) : آية ١٤]
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤)
وقوله تعالى : تَجْرِي أي سفينة ذات ألواح جارية، وقوله تعالى : بِأَعْيُنِنا أي بمرأى منا أو بحفظنا، لأن العين آلة ذلك فتستعمل فيه.
وقوله تعالى : جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ يحتمل وجوها أحدها : أن يكون نصبه بقوله : حَمَلْناهُ أي حملناه جزاء، أي ليكون ذلك الحمل جزاء الصبر على كفرانهم وثانيها : أن يكون بقوله : تَجْرِي بِأَعْيُنِنا لأن فيه معنى حفظنا، أي ما تركناه عن أعيننا وعوننا جزاء له ثالثها : أن يكون بفعل حاصل من مجموع ما ذكره كأنه قال : فتحنا أبواب السماء وفجرنا الأرض عيونا وحملناه، وكل ذلك فعلناه جزاء له، وإنما ذكرنا هذا، لأن الجزاء ما كان يحصل إلا بحفظه وإنجائه لهم، فوجب أن يكون جزاء منصوبا بكونه مفعولا له بهذه الأفعال، ولنذكر ما فيه من اللطائف في مسائل :
المسألة الأولى : قال في السماء : فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [القمر : ١١] لأن السماء ذات الرجع وما لها فطور، ولم يقل : وشققنا السماء، وقال في الأرض : وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ [القمر : ١٢] لأنها ذات الصدع.
الثانية : لما جعل المطر كالماء الخارج من أبواب مفتوحة واسعة، ولم يقل في الأرض وأجرينا من الأرض بحارا وأنهارا، بل قال : عُيُوناً والخارج من العين دون الخارج من الباب ذكر في الأرض أنه تعالى فجرها كلها، فقال : وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ لتقابل كثرة عيون الأرض سعة أبواب السماء فيحصل بالكثرة هاهنا ما حصل بالسعة هاهنا.
الثالثة : ذكر عند الغضب سبب الإهلاك وهو فتح أبواب السماء وفجر الأرض بالعيون، وأشار إلى


الصفحة التالية
Icon