مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٠٤
الْغَرْبِيِ
[القصص : ٤٤] ويحتمل أن يقول : نحس ليس بنعت، بل هو اسم معنى أو مصدر، فيكون كقولهم يوم برد وحر، وهو أقرب وأصح.
المسألة الخامسة : ما معنى مُسْتَمِرٍّ؟ نقول فيه وجوه الأول : ممتد ثابت مدة مديدة من استمر الأمر إذا دام، وهذا كقوله تعالى : فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت : ١٦] لأن الجمع يفيد معنى الاستمرار والامتداد، وكذلك قوله : حُسُوماً [الحاقة : ٧] الثاني : شديد من المرة كما قلنا من قبل في قوله : سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر : ٢] وهذا كقولهم أيام الشدائد، وإليه الإشارة بقوله تعالى : فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ (عذاب الخزي) «١» [فصلت : ١٦] فإنه يذيقهم المر المضر من العذاب. ثم قال تعالى :
[سورة القمر (٥٤) : آية ٢٠]
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠)
فيه مسائل :
المسألة الأولى : تَنْزِعُ النَّاسَ وصف أو حال؟ نقول : يحتمل الأمرين جميعا، إذ يصح أن يقال : أرسل ريحا صرصرا نازعة للناس، ويصح أن يقال : أرسل الريح نازعة، فإن قيل : كيف يمكن جعلها حالا، وذو الحال نكرة؟ نقول : الأمر هنا أهون منه في قوله تعالى : وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ [القمر : ٤] فإنه نكرة، وأجابوا عنه بأن (ما) موصوفة فتخصصت فحسن جعلها ذات الحال، فكذلك نقول هاهنا الريح موصوفة بالصرصر، والتنكير فيه للتعظيم، وإلا فهي ثلاثة فلا يبعد جعلها ذات حال، وفيه وجه آخر، وهو أنه كلام مستأنف على فعل وفاعل، كما تقول : جاء زيد جذبني، وتقديره جاء فجذبني، كذلك هاهنا قال : إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [القمر : ١٩] / فأصبحت تَنْزِعُ النَّاسَ ويدل عليه قوله تعالى : فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى [الحاقة : ٧] فالتاء في قوله : تَنْزِعُ النَّاسَ إشارة إلى ما أشار إليه بقوله : صَرْعى وقوله تعالى :
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فيه وجوه أحدها : نزعتهم فصرعتهم : كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ كما قال : صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ [الحاقة : ٧] ثانيها : نزعتهم فهم بعد النزع : كأنهم أعجاز نخل وهذا أقرب، لأن الانقعار قبل الوقوع، فكأن الريح تنزع [الواحد] وتقعر [ه ] فينقعر فيقع فيكون صريعا، فيخلو الموضع عنه فيخوى، وقوله في الحاقة : فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ إشارة إلى حالة بعد الانقعار الذي هو بعد النزع، وهذا يفيد أن الحكاية هاهنا مختصرة حيث لم يشر إلى صرعهم وخلو منازلهم عنهم بالكلية، فإن حال الانقعار لا يحصل الخلو التام إذ هو مثل الشروع في الخروج والأخذ فيه ثالثها : تنزعهم نزعا بعنف كأنهم أعجاز نخل تقعرهم فينقعروا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض، وفي المعنى وجوه أحدها : أنه ذكر ذلك إشارة إلى عظمة أجسادهم وطول أقدادهم ثانيها : ذكره إشارة إلى ثباتهم في الأرض، فكأنهم كانوا يعملون أرجلهم في الأرض ويقصدون المنع به على الريح وثالثها : ذكره إشارة إلى يبسهم وجفافهم بالريح، فكانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة.
المسألة الثانية : قال هاهنا : مُنْقَعِرٍ فذكر النخل،
١٩، ١١، ٧]
ف، وقال : نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة : ٧] وقال : نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فحيث قال : مُنْقَعِرٍ كان المختار ذلك لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول، لأنه الذي ورد عليه القعر فهو مقعور، والخاو والباسق فاعل ومعناه إخلاء ما هو مفعول من علامة التأنيث أولا، كما تقول : امرأة كفيل، وامرأة كفيلة، وامرأة كبير، وامرأة كبيرة. وأما الباسقات، فهي فاعلات حقيقة، لأن البسوق أمر قام بها، وأما الخاوية، فهي من باب حسن الوجه، لأن الخاوي موضعها، فكأنه قال : نخل خاوية المواضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث / اللفظ، فكان الدليل يقتضي ذلك، بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية. ثم قال تعالى :
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٢١ إلى ٢٢]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)
وتفسيره قد تقدم والتكرير للتقرير، وفي قوله : عَذابِي وَنُذُرِ لطيفة ما ذكرناها، وهي تثبت بسؤال وجواب لو قال القائل : أكثر المفسرين على أن النذر في هذا الموضع جمع نذير الذي هو مصدر معناه إنذار، فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقل : فكيف كان أنواع عذابي ووبال إنذاري؟ نقول : فيه إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب، وذلك لأن الإنذار إشفاق ورحمة، فقال : الإنذارات التي هي نعم ورحمة تواترت، فلما لم تنفع وقع العذاب دفعة واحدة، فكانت النعم كثيرة، والنقمة واحدة وسنبين هذا زيادة بيان حين نفسر قوله تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن : ١٣] حيث جمع الآلاء وكثر ذكرها وكررها ثلاثين مرة، ثم بين اللّه تعالى حال قوم آخرين. فقال :
[سورة القمر (٥٤) : آية ٢٣]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣)
وقد تقدم تفسيره غير أنه في قصة عاد قال : كَذَّبَتْ [القمر : ١٨] ولم يقل : بالنذر، وفي قصة نوح قال : كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ «١» [الشعراء : ١٠٥] فنقول : هذا يؤيد ما ذكرنا من أن المراد بقوله : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر : ٩] أن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحا بناء على مذهبهم وإنما صرح هاهنا لأن كل قوم يأتون بعد قوم وأتاهما رسولان فالمكذب المتأخر يكذب المرسلين جميعا حقيقة والأولون يكذبون رسولا واحدا حقيقة ويلزمهم تكذيب من بعده بناء على ذلك لأنهم لما كذبوا من تقدم في قوله : اللّه تعالى واحد، والحشر كائن، ومن أرسل بعده كذلك قوله ومذهبه لزم منه أن يكذبوه ويدل على هذا

(١) لم نعثر عليها في المعجم، ولفظ (بالنذر) مقحمة فإزالتها تستقيم الآية.


الصفحة التالية
Icon