مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣١٠
النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو صالح عليه السلام لأنه معجزة فما التحقيق في تفسيره؟ نقول : فيه وجهان أحدهما : أن المعجزة فتنة لأن بها يتميز حال من يثاب ممن يعذب، لأن اللّه تعالى بالمعجزة لا يعذب الكفار إلا إذا كان ينبئهم بصدقه من حيث نبوته فالمعجزة ابتلاء لأنها تصديق وبعد التصديق يتميز المصدق عن المكذب وثانيهما : وهو أدق أن إخراج الناقة من الصخرة كان معجزة وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم وقسمة الماء كان فتنة ولهذا قال : إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً ولم يقل : إنا مخرجو الناقة فتنة، والتحقيق في الفتنة والابتلاء والامتحان قد تقدم مرارا وإليه إشارة خفية وهي أن اللّه تعالى يهدي من يشاء وللهداية طرق، منها ما يكون على وجه يكون للإنسان مدخل فيه بالكسب، مثاله يخلق شيئا دالا ويقع تفكر الإنسان فيه ونظره إليه على وجه يترجح عنده الحق فيتبعه وتارة يلجئه إليه ابتداء ويصونه عن الخطأ من صغره فإظهار المعجز على يد الرسول أمر يهدي به من يشاء اهتداء مع الكسب وهداية الأنبياء من غير كسب منهم بل يخلق فيهم علوما غير كسبية فقوله : إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً إشارة إليهم، ولهذا قال لهم : ومعناه على وجه يصلح لأن يكون فتنة وعلى هذا كل من كانت معجزته أظهر يكون ثواب قومه أقل، وقوله تعالى : فَارْتَقِبْهُمْ أي فارتقبهم بالعذاب، ولم يقل : فارتقب العذاب إشارة إلى حسن الأدب والاجتناب عن طلب الشر وقوله تعالى :/ وَاصْطَبِرْ يؤيد ذلك بمعنى إن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى قرب الوقت إلى أمرهما والأمر بحيث يعجز عن الصبر. ثم قال تعالى :
[سورة القمر (٥٤) : آية ٢٨]
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨)
أي مقسوم وصف بالمصدر مرادا به المشتق منه كقوله ماء ملح وقوله زور وفيه ضرب من المبالغة يقال للكريم : كرم كأنه هو عين الكرم ويقال : فلان لطف محض، ويحتمل أن تكون القسمة وقعت بينهما لأن الناقة كانت عظيمة وكانت حيوانات القوم تنفر منها ولا ترد الماء وهي على الماء، فصعب عليهم ذلك فجعل الماء بينهما يوما للناقة ويوما للقوم، ويحتمل أن تكون لقلة الماء فشربه يوما للناقة ويوما للحيوانات، ويحتمل أن يكون الماء كان بينهم قسمة يوم لقوم ويوم لقوم ولما خلق اللّه الناقة كانت ترد الماء يوم فكان الذين لهم الماء في غير يوم ورودها يقولون : الماء كله لنا في هذا اليوم ويومكم كان أمس والناقة ما أخرت شيئا فلا نمكنكم من الورود أيضا في هذا اليوم فيكون النقصان واردا على الكل وكانت الناقة تشرب الماء بأسره وهذا أيضا ظاهر ومنقول والمشهور هنا الوجه الأوسط، ونقول : إن قوما كانوا يكتفون بلبنها يوم ورودها الماء والكل ممكن ولم يرد في شيء خبر متواتر والثالث : قطع وهو من القسمة لأنها مثبتة بكتاب اللّه تعالى أما كيفية القسمة والسبب فلا وقوله تعالى : كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ مما يؤيد الوجه الثالث أي كل شرب محتضر للقوم بأسرهم لأنه لو كان ذلك لبيان كون الشرب محتضرا للقوم أو الناقة فهو معلوم لأن الماء ما كان يترك من غير حضور وإن كان لبيان أنه تحضره الناقة يوما والقوم يوما فلا دلالة في اللفظ عليه، وأما إذا كانت العادة قبل الناقة على أن يرد الماء قوم في يوم وآخرون في يوم آخر، ثم لما خلقت الناقة كانت تنقص شرب البعض وتترك شرب الباقين من غير نقصان، فقال : كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ كم أيها القوم فردوا كل يوم الماء وكل شرب ناقص تقاسموه وكل شرب كامل تقاسموه.


الصفحة التالية
Icon