مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣١٩
أما على من هو مثله فظاهر، وأما على الأراذل فلأنهم يلجئون إلى واحد منهم ويدفعون به الآخر، فيصير كل واحد برأسه، فكأن الإرسال إليهم جميعا، وأما فرعون فكان قاهرا يقهر الكل، وجعلهم بحيث لا يخالفونه في قليل ولا كثير، فأرسل اللّه إليه الرسول وحده، غير أنه كان عنده جماعة من التابعين المقربين مثل قارون تقدم عنده لماله العظيم، وهامان لدهائه، فاعتبرهم اللَّه في الإرسال، حيث قال : في مواضع : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الزخرف : ٤٦] وقال تعالى : بِآياتِنا... إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ [غافر :
٢٣، ٢٤] وقال في العنكبوت : وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى [العنكبوت : ٣٩] لأنهم إن آمنوا آمن الكل بخلاف الأقوام الذين كانوا قبلهم وبعدهم، فقال : وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وقال كثيرا مثل هذا كما في قوله : أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر : ٤٦]، وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ [غافر : ٢٨] وقال : بلفظ الملأ أيضا كثيرا.
المسألة الثانية : قال : وَلَقَدْ جاءَ ولم يقل في غيرهم جاء لأن موسى عليه السلام ما جاءهم، كما جاء المرسلون أقوامهم، بل جاءهم حقيقة حيث كان غائبا عن القوم فقدم عليهم، ولهذا قال تعالى : فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ وقوله تعالى : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة : ١٢٨] حقيقة أيضا لأنه جاءهم من اللَّه من السموات بعد المعراج، كما جاء موسى قومه من الطور حقيقة.
المسألة الثالثة : النذر إن كان المراد منها الإنذارات وهو الظاهر، فالكلام الذي جاءهم على لسان موسى ويده تلك، وإن كان المراد الرسل فهو لأن موسى وهارون عليهما السلام جاءه وكل مرسل تقدمهما جاء لأنهم كلهم قالوا ما قالا من التوحيد وعبادة اللَّه وقوله بعد ذلك : كَذَّبُوا بِآياتِنا من غير فاء تقتضي ترتب التكذيب على المجيء فيه وجهان أحدهما : أن الكلام تم عند قوله : وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وقوله : كَذَّبُوا كلام مستأنف والضمير عائد إلى كل من تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون ثانيهما : أن الحكاية مسوقة على سياق ما تقدم، فكأنه قال :(فكيف كان عذابي ونذر وقد كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم)، وعلى الوجه الأول آياتنا كلها ظاهرة، وعلى الوجه الثاني المراد آياته التي كانت مع موسى عليه السلام وهي التسع في قول أكثر المفسرين، ويحتمل أن يقال : المراد أنهم كذبوا بآيات اللَّه كلها السمعية والعقلية فإن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد. وقوله تعالى : فَأَخَذْناهُمْ إشارة إلى أنهم كانوا كالآبقين أو إلى أنهم عاصون يقال : أخذ الأمير فلانا إذا حبسه، وفي قوله : عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ لطيفة وهي أن العزيز المراد منه الغالب لكن العزيز قد يكون [الذي ] يغلب على العدو ويظفر به وفي الأول يكون غير متمكن من أخذه لبعده إن كان هاربا ولمنعته إن / كان محاربا، فقال أحد غالب لم يكن عاجزا وإنما كان ممهلا. ثم قال تعالى :
[سورة القمر (٥٤) : آية ٤٣]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣)
تنبيها لهم لئلا يأمنوا العذاب فإنهم ليسوا بخير من أولئك الذين أهلكوا وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الخطاب مع أهل مكة فينبغي أن يكون كفارهم بعضهم وإلا لقال : أنتم خير من أولئكم، وإذا كان كفارهم بعضهم فكيف قال : أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ ولم يقل : أم لهم كما يقول القائل : جاءنا الكرماء فأكرمناهم، ولا يقول : فأكرمناكم؟ نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن المراد منه أكفاركم المستمرون


الصفحة التالية
Icon