مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٢٣
المسألة الثالثة : ما المراد من قوله : وَأَمَرُّ؟ قلنا : فيه وجهان أحدهما : هو مبالغة من المر وهو مناسب لقوله تعالى : فَذُوقُوا عَذابِي [القمر : ٣٧] وقوله : ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر : ٤٨] وعلى هذا فأدهي أي أشد وأمر أي آلم، والفرق بين الشديد والأليم أن الشديد يكون إشارة إلى أنه لا يطيقه أحد لقوته ولا يدفعه أحد بقوته، مثاله ضعيف ألقى في ماء يغلبه أو نار لا يقدر على الخلاص منها، وقوي ألقي في بحر أو نار عظيمة يستويان في الألم والعذاب ويتساويان في الإيلام لكن يفترقان في الشدة فإن نجاة الضعيف من الماء الضعيف بإعانة معين ممكن، ونجاة القوي من البحر العظيم غير ممكن ثانيهما : أمر مبالغة / في المار إذ هي أكثر مرورا بهم إشارة إلى الدوام، فكأنه يقول : أشد وأدوم، وهذا مختص بعذاب الآخرة، فإن عذاب الدنيا إن اشتد قتل المعذب وزال فلا يدوم وإن دام بحيث لا يقتل فلا يكون شديدا ثالثها : أنه المرير وهو من المرة التي هي الشدة، وعلى هذا فإما أن يكون الكلام كما يقول القائل : فلان نحيف نحيل وقوي شديد، فيأتي بلفظين مترادفين إشارة إلى التأكيد وهو ضعيف، وإما أن يكون أدهى مبالغة من الداهية التي هي اسم الفاعل من دهاه أمر كذا إذا أصابه، وهو أمر صعب لأن الداهية صارت كالاسم الموضوع للشديد على وزن الباطية والسائبة التي لا تكون من أسماء الفاعلين، وإن كانت الداهية أصلهاذلك، غير أنها استعملت استعمال الأسماء وكتبت في أبوابها وعلى هذا يكون معناه ألزم وأضيق، أي هي بحيث لا تدفع.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٧ إلى ٤٨]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨)
ثم قال تعالى : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وفي الآية مسائل :
الأولى : فيمن نزلت الآية في حقهم؟ أكثر المفسرين اتفقوا على أنها نازلة في القدرية
روى الواحدي في تفسيره قال : سمعت الشيخ رضي الدين المؤيد الطوسي بنيسابور، قال : سمعت عبد الجبار قال : أخبرنا الواحدي قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج قال : أخبرنا أبو محمد عبد اللَّه الكعبي، قال :
حدثنا حمدان بن صالح الأشج حدثنا عبد اللَّه بن عبد العزيز بن أبي داود، حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل المخزومي عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول اللَّه صلى اللّه عليه وسلم في القدر، فأنزل اللَّه تعالى : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر : ٤٧- ٤٩]
وكذلك
نقل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في القدرة.
وروي عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :«مجوس هذه الأمة القدرية»
وهم المجرمون الذين سماهم اللَّه تعالى في قوله : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وكثرت الأحاديث في القدرية وفيها مباحث الأول : في معنى القدرية الذين قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : نزلت الآية فيهم، فنقول : كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه، فالجبري يقول : القدري من يقول : الطاعة والمعصية ليستا بخلق اللّه وقضائه وقدره، فهم قدرية لأنهم ينكرون القدر والمعتزلي يقول : القدري هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق اللَّه قدرني فهو قدري لإثباته القدر، وهما جميعا يقولان لأهل السنة الذي يعترف بخلق اللَّه وليس من العبد إنه قدري، والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية هو الذي ينكر القدر ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها ويدل عليه قوله جاء مشركوا قريش يحاجون رسول اللَّه صلى اللّه عليه وسلم / في القدر فإن مذهبهم ذلك، وما كانوا يقولون مثل ما يقول المعتزلة إن اللَّه خلق لي سلامة الأعضاء وقوة الإدراك


الصفحة التالية
Icon