مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٢٦
[النساء : ٢٩] الآية : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام : ١٢١] الآية : وإِذا تَدايَنْتُمْ [البقرة :
٢٨٣] الآية إلى غير ذلك.
المسألة الثانية : كُلَّ قرئ بالنصب وهو الأصح المشهور، وبالرفع فمن قرأ بالنصب فنصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر كقوله : وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ [يس : ٣٩] وقوله : وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ [الإنسان : ٣١] وذلك الفعل هو خلقناه وقد فسره قوله : خَلَقْناهُ كأنه قال : إنا خلقنا كل شيء بقدر، وخلقناه على هذا لا يكون صفة لشيء كما في قوله تعالى : وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات : ٤٩] غير أن هناك يمنع من أن يكون صفة كونه خاليا عن ضمير عائد إلى الموصوف، وهاهنا لم يوجد ذلك المانع، وعلى هذا فالآية حجة على المعتزلة لأن أفعالنا شيء فتكون داخلة في كل شيء فتكون مخلوقة للَّه تعالى، ومن قرأ بالرفع لم يمكنه أن يقول كما يقول في قوله : وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت : ١٧] حيث قرئ بالرفع لأن كل شيء نكرة فلا يصح مبتدأ فيلزمه أن يقول : كل شيء خلقناه فهو بقدر، كقوله تعالى : وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد : ٨] في المعنى، وهذان الوجهان ذكرهما ابن عطية في تفسيره وذكر أن المعتزلي يتمسك بقراءة الرفع ويحتمل أن يقال :
القراءة الأولى وهو النصب له وجه آخر، وهو أن يقال : نصبه بفعل معلوم لا بمضمر مفسر وهو قدرنا أو خلقنا، كأنه قال : إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، أو قدرنا كل شيء خلقناه بقدر، وإنما قلنا : إنه معلوم لأن قوله :
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر : ٦٢] دل عليه، وقوله : وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ دل على أنه قدر وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على بطلان قول المعتزلي وإنما يدل على بطلان قوله : اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر :
٦٢] وأما على القراءة الثانية وهي الرفع، فنقول : جاز أن يكون كل شيء مبتدأ وخلقناه بقدر خبره وحينئذ تكون الحجة قائمة عليهم بأبلغ وجه، وقوله : كُلَّ شَيْءٍ نكرة فلا يصلح مبتدأ ضعيف لأن قوله : كُلَّ شَيْءٍ عم الأشياء كلها بأسرها، فليس فيه / المحذور الذي في قولنا : رجل قائم، لأنه لا يفيد فائدة ظاهرة، وقوله : كُلَّ شَيْءٍ يفيد ما يفيد زيد خلقناه وعمرو خلقناه مع زيادة فائدة، ولهذا جوزوا ما أحد خير منك لأنه أفاد العموم ولم يحسن قول القائل أحد خير منك حيث لم يفد العموم.
المسألة الثالثة : ما معنى القدر؟ قلنا : فيه وجوه أحدها : المقدار كما قال تعالى : وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد : ٨] وعلى هذا فكل شيء مقدر في ذاته وفي صفاته، أما المقدر في الذات فالجسم وذلك ظاهر فيه وكذلك القائم بالجسم من المحسوسات كالبياض والسواد، وأما الجوهر الفرد ما لا مقدار له والقائم بالجوهر ما لا مقدار له بمعنى الامتداد كالعلم والجهل وغيرهما، فنقول : هاهنا مقادير لا بمعنى الامتداد، أما الجواهر الفرد فإن الإثنين منه أصغر من الثلاثة، ولولا أن حجما يزداد به الامتداد، وإلا لما حصل دون الامتداد فيه، وأما القائم بالجوهر فله نهاية وبداية، فمقدار العلوم الحادثة والقدر المخلوقة متناهية، وأما الصفة فلأن لكل شيء ابتدئ زمانا فله مقدار في البقاء لكون كل شيء حادثا، فإن قيل : اللَّه تعالى وصف به، ولا مقدار له ولا ابتداء لوجوده، نقول : المتكلم إذا كان موصوفا بصفة أو مسمى باسم، ثم ذكر الأشياء المسماة بذلك الاسم أو الأشياء الموصوفة بتلك الصفة، وأسند فعلا من أفعاله إليه يخرج هو عنه، كما يقول القائل : رأيت جميع من في هذا البيت فرأيتهم كلهم أكرمني، ويقول ما في البيت أحد إلا وضربني أو ضربته يخرج هو عنه لا لعدم كونه مقتضى الاسم، بل بما في التركيب من الدليل على خروجه عن الإرادة، فكذلك قوله : خَلَقْناهُ وخالِقُ كُلِّ


الصفحة التالية
Icon