مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٢٩
خلقه أن يكون متحيزا ولا بد له من أن يكون / ساكنا أو متحركا فإيجاده أولا يخلقه وما هو عليه بأمره يدل عليه قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إلى أن قال : مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف : ٥٤] فجعل مالها بعد خلقها من الحركة والسكون وغيرهما بأمره ويدل عليه
قوله صلى اللّه عليه وسلم :«أول ما خلق اللّه تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر»
جعل الخلق في الحقيقة والأمر في الوصف، وكذلك قوله تعالى : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثم قال : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ [السجدة : ٤، ٥] وقد ذكرنا تفسيره خامسها : مخلوقات اللّه تعالى على قسمين أحدهما : خلقه اللّه تعالى في أسرع ما يكون كالعقل وغيره وثانيهما : خلقه بمهلة كالسماوات والإنسان والحيوان والنبات، فالمخلوق سريعا أطلق عليه الأمر والمخلوق بمهلة أطلق عليه الخلق، وهذا مثل الوجه الثاني.
سادسها : ما قاله فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى : فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت :
١١] وهو أن الخلق هو التقدير والإيجاد بعده بعدية ترتيبية لا زمانية ففي علم اللّه تعالى أن السموات تكون سبع سموات في يومين تقديرية فهو قدر خلقه كما علم وهو إيجاد فالأول خلق والثاني وهو الإيجاد أمر وأخذ هذا من المفهوم اللغوي قال الشاعر :
وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
أي يقدر ولا يقطع ولا يفصل كالخياط الذي يقدر أولا ويقطع ثانيا وهو قريب إلى اللغة لكنه بعيد الاستعمال في القرآن، لأن اللّه تعالى حيث ذكر الخلق أراد الإيجاد منه قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ [العنكبوت : ٦١] ومنه قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس : ٧٧] وليس المراد أنا قدرنا أنه سيوجد منها إلى غير ذلك. سابعها : الخلق هو الإيجاد ابتداء والأمر هو ما به الإعادة فإن اللّه خلق الخلق أولا بمهلة ثم يوم القيامة يبعثهم في أسرع من لحظة، فيكون قوله : وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كقوله تعالى : فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصافات : ١٩] وقوله : صَيْحَةً واحِدَةً [يس : ٢٩] ونَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة : ١٣] وعلى هذا فقوله : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر : ٤٩] إشارة إلى الوحدانية. وقوله تعالى : وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ إلى الحشر فكأنه بين الأصل الأول والأصل الآخر بالآيات. ثامنها : الإيجاد خلق والإعدام أمر، يعني يقول للملائكة الغلاظ الشداد أهلكوا وافعلوا فلا يعصون اللّه ما أمرهم ولا يقفون الامتثال على إعادة الأمر مرة أخرى فأمره مرة واحدة يعقبه العدم والهلاك.
وفيه لطيفة : وهي أن اللّه تعالى جعل الإيجاد الذي هو من الرحمة بيده، والإهلاك يسلط عليه رسله وملائكته، وجعل الموت بيد ملك الموت ولم يجعل الحياة بيد ملك، وهذا مناسب لهذا الموضع لأنه بين النعمة بقوله : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر : ٤٩] وبين قدرته على النقمة فقال : وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ.
وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [المؤمنون : ١٨] وهو كقوله : فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [المؤمنون : ٢٧] عند العذاب، وقوله تعالى : فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً [هود : ٦٦] وقوله تعالى : فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها [هود : ٨٢] وكما ذكر في هذه الحكايات العذاب بلفظ الأمر وبين الإهلاك به كذلك هاهنا / ولا سيما إذا نظرت إلى ما تقدم من الحكايات ووجدتها عين تلك الحكايات يقوي هذا القول وكذلك قوله تعالى :
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر : ٥١] يدل على صحة هذا القول تاسعها : في معنى اللمح بالبصر


الصفحة التالية
Icon