مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٣١
عادتهم، وهذا يؤيد ما ذكرنا من قبل أن كلا وإن كان نكرة يحسن الابتداء به للعموم وعدم الإبهام. ثم قال تعالى :
[سورة القمر (٥٤) : آية ٥٤]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤)
قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها : الطُّورِ وأما النهر ففيه قراءات فتح النون والهاء كحجر وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار وهذا هو الظاهر الأصح وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا شك أن كمال اللذة بالبستان أن يكون الإنسان فيه، وليس من اللذة بالنهر أن يكون الإنسان فيه، بل لذته أن يكون في الجنة عند النهر، فما معنى قوله تعالى : وَنَهَرٍ؟ نقول : قد أجبنا عن هذا في تفسير قوله تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات : ١٥] في سورة الذاريات، وقلنا : المراد في خلال العيون، وفيما بينها من المكان وكذلك في جنات لأن الجنة هي الأشجار التي تستر شعاع الشمس، ولهذا قال تعالى : فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات : ٤١]. وإذا كانت الجنة هي الأشجار الساترة فالإنسان لا يكون في الأشجار وإنما يكون بينها أو خلالها، فكذلك النهر، ونزيد هاهنا وجها آخر وهو أن المراد في جنات وعند نهر لكون المجاورة تحسن إطلاق اللفظ الذي لا يحسن إطلاقه عند عدم المجاورة كما قال :
«علفتها تبنا وماء باردا»
وقالوا : تقلدت سيفا ورمحا، والماء لا يعلف والرمح لا يتقلد ولكن لمجاورة التبن والسيف حسن الإطلاق فكذلك هنا لم يأت في الثاني بما أتى به في الأول من كلمة في.
المسألة الثانية : وحد النهر مع جمع الجنات وجمع الأنهار وفي كثير من المواضع كما في قوله تعالى :
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة : ٢٥] إلى غيره من المواضع فما الحكمة فيه؟ نقول : أما على الجواب الأول فنقول : لما بين أن معنى في نهر في خلال فلم يكن للسامع حاجة إلى سماع الأنهار، لعلمه بأن النهر الواحد لا يكون له خلال. وأما في قوله تعالى : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فلو لم يجمع الأنهار لجاز أن يفهم أن في الجنات كلها نهرا واحدا كما في الدنيا فقد يكون نهر واحد ممتد جار في جنات كثيرة وأما على الثاني فنقول : الإنسان يكون في جنات لأنا بينا أن الجمع في جنات إشارة إلى سعتها وكثرة / أشجارها وتنوعها والتوحيد عند ما قال : مَثَلُ الْجَنَّةِ [محمد : ١٥] وقال : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة : ١١١] لاتصال أشجارها ولعدم وقوع القيعان الخربة بينها، وإذا علمت هذا فالإنسان في الدنيا إذا كان في بيت في دار وتلك الدار في محلة، وتلك المحلة في مدينة، يقال إنه في بلدة كذا، وأما القرب فإذا كان الإنسان في الدنيا بين نهرين بحيث يكون قربه منهما على السواء يقال إنه جالس عند نهرين، فإذا قرب من أحدهما يقال من عند أحد نهرين دون الآخر، لكن في دار الدنيا لا يمكن أن يكون عند ثلاثة أنهار وإنما يمكن أن يكون عند نهرين، والثالث منه أبعد من النهرين، فهو في الحقيقة ليس يكون في زمان واحد عند أنهار واللَّه تعالى يذكر أمر الآخرة على ما نفهمه في الدنيا، فقال : عند نهر لما بينا أن قوله : وَنَهَرٍ وإن كان يقتضي في نهر لكن ذلك للمجاورة كما في تقلدت سيفا ورمحا، وأما قوله : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فحقيقته مفهومة عندنا لأن الجنة الواحدة قد يجري فيها أنهار كثيرة أكثر من ثلاثة وأربعة، فهذا ما فيه مع أن أواخر


الصفحة التالية
Icon