مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٣٣
القعود جلوس فيه مكث حقيقة واقتضاء، ويدل عليه وجوه الأول : هو أن الزمن يسمى مقعدا ولا يسمى مجلسا لطول المكث حقيقة ومنه سمي قواعد البيت والقواعد من النساء قواعد ولا يقال لهن : جوالس لعدم دلالة الجلوس على المكث الطويل فذكر القواعد في الموضعين لكونه مستقرا بين الدوام والثبات على حالة واحدة ويقال للمركوب من الإبل قعود لدوام اقتعاده اقتضاء، وإن لم يكن حقيقة فهو لصونه عن الحمل واتخاذه للركوب كأنه وجد فيه نوع قعود دائم اقتضى ذلك ولم يرد للإجلاس الثاني : النظر إلى تقاليب الحروف فإنك إذا نظرت إلى ق ع د وقلبتها تجد معنى المكث في الكل فإذا قدمت القاف رأيت قعد وقدع بمعنى ومنه تقادع الفراش بمعنى تهافت، وإذا قدمت العين رأيت عقد وعدق بمعنى المكث في غاية الظهور وفي عدق لخفاء يقال : أعدق بيدك الدلو في البئر إذا أمره بطلبه بعد وقوعه فيها والعودقة خشبة عليها كلاب يخرج معه الدلو الواقع في البئر، وإذا قدمت الدال رأيت دقع ودعق والمكث في الدقع ظاهر والدقعاء هي التراب الملتصق بالأرض والفقر المدقع هو الذي يلصق صاحبه بالتراب. وفي دعق أيضا إذ الدعق مكان تطؤه الدواب بحوافرها فيكون صلبا أجزاؤه متداخل بعضها ببعض لا يتحرك شيء منها عن موضعه الوجه الثالث : الاستعمالات في القعود إذا اعتبرت ظهر ما ذكرنا قال تعالى : لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء : ٩٥] والمراد الذي لا يكون بعده اتباع وقال تعالى : مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران : ١٢١] مع أنه تعالى قال : إِنَّ اللَّهَ / يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف : ٤] فأشار إلى الثبات العظيم.
وقال تعالى : إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال : ٤٥] فالمقاعد إذن هي المواضع التي يكون فيها المقاتل بثبات ومكث وإطلاق مقعدة على العضو الذي عليه القعود أيضا يدل عليه، إذا عرفت هذا الفرق بين الجلوس والقعود حصل لك فوائد منها هاهنا فإنه يدل على دوام المكث وطول اللبث، ومنها في قوله تعالى : عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق : ١٧] فإن القعيد بمعنى الجليس والنديم، ثم إذا عرف هذا وقيل للمفسرين الظاهرين فما الفائدة في اختيار لفظ القعيد يدل لفظ الجليس مع أن الجليس أشهر؟ يكون جوابهم أن آخر الآيات من قوله : حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق : ١٦] ولَدَيَّ عَتِيدٌ [ق : ٢٣] وقوله : جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود : ٥٩] يناسب القعيد، ولا الجليس وإعجاز القرآن ليس في السجع، وإذا نظرت إلى ما ذكر تبين لك فائدة جليلة معنوية حكمية في وضع اللفظ المناسب لأن القعيد دل على أنهما لا يفارقانه ويداومان الجلوس معه، وهذا هو المعجز وذلك لأن الشاعر يختار اللفظ الفاسد لضرورة الشعر والسجع ويجعل المعنى تبعا للفظ، واللَّه تعالى بين الحكمة على ما ينبغي وجاء باللفظ على أحسن ما ينبغي، وفائدة أخرى في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [المجادلة : ١١] فإن قوله : فَافْسَحُوا إشارة إلى الحركة، وقوله : فَانْشُزُوا إشارة إلى ترك الجلوس فذكر المجلس إشارة إلى أن ذلك موضع جلوس فلا يجب ملازمته وليس بمقعد حتى لا يفارقونه.
المسألة الثالثة : فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ وجهان أحدهما : مقعد صدق، أي صالح يقال : رجل صدق للصالح ورجل سوء للفاسد، وقد ذكرناه في سورة : إِنَّا فَتَحْنا في قوله تعالى : وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح : ١٢]، وثانيهما : الصدق المراد منه ضد الكذب، وعلى هذا ففيه ووجهان الأول : مقعد صدق من أخبر عنه وهو اللَّه ورسوله الثاني : مقعد ناله من صدق فقال : بأن اللَّه واحد وأن محمدا رسوله، ويحتمل أن يقال المراد أنه مقعد لا


الصفحة التالية
Icon