مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٤٢ معنى السجود أدخل لما أنه ينبسط على الأرض كالساجد حقيقة، كما أن الشمس في الحسبان أدخل، لأن حساب سيرها أيسر عند المقومين من حساب سير القمر، إذ ليس عند المقومين أصعب من تقويم القمر في حساب الزيج. ثم قال تعالى :
[سورة الرحمن (٥٥) : آية ٧]
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧)
ورفع السماء معلوم معنى، ونصبها معلوم لفظا فإنها منصوبة بفعل يفسره قوله : رَفَعَها كأنه تعالى قال :
رفع السماء، وقرئ وَالسَّماءَ بالرفع على الابتداء والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الرحمن : ٥] وأما وضع الميزان / فإشارة إلى العدل وفيه لطيفة وهي أنه تعالى بدأ أولا بالعلم ثم ذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن، ثم ذكر العدل وذكر أخص الأمور له وهو الميزان، وهو كقوله تعالى :
وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الحديد : ٢٥] ليعمل الناس بالكتاب ويفعلوا بالميزان ما يأمرهم به الكتاب فقوله :
عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن : ٢] وَوَضَعَ الْمِيزانَ مثل : وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ فإن قيل : العلم لا شك في كونه نعمة عظيمة، وأما الميزان فما الذي فيه من النعم العظيمة التي بسببها يعد في الآلاء؟ نقول : النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد بأن يغلبه الآخر ولو في الشيء اليسير، ويرى أن ذلك استهانة به فلا يتركه لخصمه لغلبة، فلا أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه فلو لا التبيين ثم التساوي لأوقع الشيطان بين الناس البغضاء كما وقع عند الجهل وزوال العقل والسكر، فكما أن العقل والعلم صارا سببا لبقاء عمارة العالم، فكذلك العدل في الحكمة سبب، وأخص الأسباب الميزان فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته لكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما. ثم قال تعالى :
[سورة الرحمن (٥٥) : آية ٨]
أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨)
وعلى هذا قيل : المراد من الميزان الأول العدل ووضعه شرعه كأنه قال : شرع اللّه العدل لئلا تطغوا في الميزان الذي هو آلة العدل، هذا هو المنقول، والأولى أن يعكس الأمر، ويقال : الميزان الأول هو الآلة، والثاني هو بمعنى المصدر ومعناه وضع الميزان لئلا تطغوا في الوزن أو بمعنى العدل وهو إعطاء كل مستحق حقه، فكأنه قال : وضع الآلة لئلا تطغوا في إعطاء المستحقين حقوقهم. ويجوز إرادة المصدر من الميزان كإرادة الوثوق من الميثاق والوعد من الميعاد، فإذن المراد من الميزان آلة الوزن. والوجه الثاني :(إنّ) (أن) مفسرة والتقدير شرع العدل، أي لا تطغوا، فيكون وضع الميزان بمعنى شرع العدل، وإطلاق الوضع للشرع والميزان للعدل جائز، ويحتمل أن يقال : وضع الميزان أي الوزن.
وقوله : أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ على هذا الوجه، المراد منه الوزن، فكأنه نهى عن الطغيان في الوزن، والاتزان وإعادة الميزان بلفظه يدل على أن المراد منهما واحد، فكأنه قال : ألا تطغوا فيه، فإن قيل : لو كان المراد الوزن، لقال : ألا تطغوا في الوزن، نقول : لو قال في الوزن لظن أن النهي مختص بالوزن للغير لا بالاتزان للنفس، فذكر بلفظ الآلة التي تشتمل على الأخذ والإعطاء، وذلك لأن المعطي لو وزن ورجح رجحانا ظاهرا يكون قد أربى، ولا سيما في الصرف وبيع المثل.


الصفحة التالية
Icon