مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٤٨
على تقدير المقدرات أذهان الناس والأولى أن لا يبالغ الإنسان في استخراج الأمور البعيدة في كلام اللّه تعالى تمسكا بقول عمر رضي اللّه تعالى عنه حيث قال مع نفسه عند قراءته سورة عبس : كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفع عصا كانت بيده وقال هذا لعمر اللّه التكليف وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال : اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه وسيأتي فائدة كلامه تعالى في تفسير السورة إن شاء اللّه تعالى الجواب الثاني :
ما قلناه : إنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة : فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أربع مرات لبيان ما في ذلك من المعنى وثلاث مرات للتقرير والتكرير وللثلاث والسبع من بين الأعداد فوائد ذكرناها في قوله تعالى : وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان : ٢٧] فلما ذكرنا العذاب ثلاث مرات ذكر الآلاء إحدى وثلاثين مرة لبيان ما فيه من المعنى وثلاثين مرة للتقرير الآلاء مذكورة عشر مرات أضعاف مرات ذكر العذاب إشارة إلى معنى قوله تعالى :
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام : ١٦٠]، الثالث : إن الثلاثين مرة تكرير بعد البيان في المرة الأولى لأن / الخطاب مع الجن والإنس، والنعم منحصرة في دفع المكروه وتحصيل المقصود، لكن أعظم المكروهات عذاب جهنم ولها سبعة أبواب وأتم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب فإغلاق الأبواب السبعة وفتح الأبواب الثمانية جميعه نعمة وإكرام، فإذا اعتبرت تلك النعم بالنسبة إلى جنسي الجن والإنس تبلغ ثلاثين مرة وهي مرات التكرير للتقرير، والمرة الأولى لبيان فائدة الكلام، وهذا منقول وهو ضعيف، لأن اللّه تعالى ذكر نعم الدنيا والآخرة، وما ذكره اقتصار على بيان نعم الآخرة الرابع : هو أن أبواب النار سبعة واللّه تعالى ذكر سبع آيات تتعلق بالتخويف من النار، من قوله تعالى : سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ، إلى قوله تعالى : يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن : ٣١- ٤٤] ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك جنتين حيث قال : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن : ٤٦] ولكل جنة ثمانية أبواب تفتح كلها للمتقين، وذكر من أول السورة إلى ما ذكرنا من آيات التخويف ثماني مرات : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سبع مرات للتقرير بالتكرير استيفاء للعدد الكثير الذي هو سبعة، وقد بينا سبب اختصاصه في قوله تعالى : سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان : ٢٧] وسنعيد منه طرفا إن شاء اللّه تعالى، فصار المجموع ثلاثين مرة المرة الواحدة التي هي عقيب النعم الكثيرة لبيان المعنى وهو الأصل والتكثير تكرار فصار إحدى وثلاثين مرة. ثم قال تعالى :
[سورة الرحمن (٥٥) : آية ١٤]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤)
وفي الصلصال وجهان أحدهما : هو بمعنى المسنون من صل اللحم إذا أنتن، ويكون الصلصال حينئذ من الصلول وثانيهما : من الصليل يقال : صل الحديد صليلا إذا حدث منه صوت، وعلى هذا فهو الطين اليابس الذي يقع بعضه على بعض فيحدث فيما بينهما صوت، إذ هو الطين اللازب الحر الذي إذا التزق بالشيء ثم انفصل عنه دفعة سمع منه عند الانفصال صوت، فإن قيل : الإنسان إذا خلق من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب وورد أنه خلق من الطين ومن حمأ ومن ماء مهين إلى غير ذلك نقول : أما قوله مِنْ تُرابٍ [الحج : ٥] تارة، ومِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات : ٢٠] أخرى، فذلك باعتبار شخصين آدم خلق من الصلصال ومن حمأ وأولاده خلقوا من ماء مهين، ولولا خلق آدم لما خلق أولاده، ويجوز أن يقال : زيد خلق من حمأ بمعنى أن أصله الذي هو جده خلق منه، وأما قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات : ١١] ومِنْ حَمَإٍ [الحجر :
٢٦] وغير ذلك فهو إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولا من التراب، ثم صار طينا ثم حمأ مسنونا ثم لازبا،


الصفحة التالية
Icon