مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٥٣
بين بقوله : خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [الرحمن : ١٤] أن الإنسان خلقه من تراب وطين وبين بقوله : خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن : ١٥] أن النار أيضا أصل لمخلوق عجيب، وبين بقوله : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أن الماء أصل لمخلوق آخر، كالحيوان عجيب، بقي الهواء لكنه غير محسوس، فلم يذكر أنه أصل مخلوق بل بين كونه منشأ للجواري في البحر كالأعلام. فقال :
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٤ إلى ٢٥]
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في جعل الجواري خاصة له وله السموات وما فيها والأرض وما عليها؟ نقول :
هذا الكلام مع العوام، فذكر ما لا يغفل عنه من له أدنى عقل فضلا عن الفاضل الذكي، فقال : لا شك أن الفلك في البحر لا يملكه في الحقيقة أحد إذ لا تصرف لأحد في هذا الفلك وإنما كلهم منتظرون رحمة اللّه تعالى معترفون بأن أموالهمو أرواحهم في قبضة قدرة اللّه تعالى وهم في ذلك يقولون لك : الفلك ولك الملك وينسبون البحر والفلك إليه، ثم إذا خرجوا ونظروا إلى / بيوتهم المبنية بالحجارة والكلس وخفي عليهم وجوه الهلاك، يدعون مالك الفلك، وينسبون ما كانوا ينسبون البحر والفلك إليه، وإليه الإشارة بقوله : فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت : ٦٥] الآية.
المسألة الثانية :(الجواري) جمع جارية، وهي اسم للسفينة أو صفة، فإن كانت اسما لزم الاشتراك والأصل عدمه، وإن كانت صفة الأصل أن تكون الصفة جارية على الموصوف، ولم يذكر الموصوف هنا، فنقول : الظاهر أن تكون صفة للتي تجري ونقل عن الميداني أن الجارية السفينة التي تجري لما أنها موضوعة للجري، وسميت المملوكة جارية لأن الحرة تراد للسكن والازدواج، والمملوكة لتجري في الحوائج، لكنها غلبت السفينة، لأنها في أكثر أحوالها تجري، ودل العقل على ما ذكرنا من أن السفينة هي التي تجري غير أنها غلبت بسبب الاشتقاق على السفينة الجارية، ثم صار يطلق عليها ذلك وإن لم تجر، حتى يقال : للسفينة الساكنة أو المشدودة على ساحل البحر جارية، لما أنها تجري، وللمملوكة الجالسة جارية للغلبة، ترك الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه فقوله تعالى : وَلَهُ الْجَوارِ أي السفن الجاريات، على أن السفينة أيضا فعيلة من السفن وهو النحت، وهي فعيلة بمعنى فاعلة عند ابن دريد أي تسفن الماء، أو فعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى منحوتة فالجارية والسفينة جاريتان على الفلك وفيه لطيفة لفظية : وهي أن اللّه تعالى لما أمر نوحا عليه السلام باتخاذ السفينة، قال : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [هود : ٣٧] ففي أول الأمر قال لها : الفلك لأنها بعد لم تكن جرت، ثم سماها بعد ما عملها سفينة كما قال تعالى : فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت : ١٥] وسماها جارية كما قال تعالى : إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة : ١١] وقد عرفنا أمر الفلك وجريها وصارت كالمسماة بها، فالفلك قبل الكل، ثم السفينة ثم الجارية.
المسألة الثالثة : ما معنى المنشآت؟ نقول : فيه وجهان أحدهما : المرفوعات من نشأت السحابة إذا ارتفعت، وأنشأ اللّه إذا رفعه وحينئذ إما هي بأنفسها مرتفعة في البحر، وإما مرفوعات الشراع وثانيهما :


الصفحة التالية
Icon