مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٥٥
المسألة الأولى :(من) للعقلاء وكل ما على وجه الأرض مع الأرض فان، فما فائدة الاختصاص بالعقلاء؟ نقول : المنتفع بالتخويف هو العاقل فخصه تعالى بالذكر.
المسألة الثانية : الفاني هو الذي فنى وكل من عليها سيفنى فهو باق بعد ليس بفان، نقول كقوله : إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر : ٣٠] وكما يقال للقريب إنه واصل، وجواب آخر : وهو أن وجود الإنسان / عرض وهو غير باق وما ليس بباق فهو فان، فأمر الدنيا بين شيئين حدوث وعدم، أما البقاء فلا بقاء له لأن البقاء استمرار، ولا يقال هذا تثبيت بالمذهب الباطل الذي هو القول بأن الجسم لا يبقى زمانين كما قيل في العرض، لأنا نقول قوله (من) بدل قوله (ما) ينفي ذلك التوهم لأني قلت :(من عليها فان) لا بقاء له، وما قلت : ما عليها فان، ومن مع كونه على الأرض يتناول جسما قام به أعراض بعضها الحياة والأعراض غير باقية، فالمجموع لم يبق كما كان وإنما الباقي أحد جزأيه وهو الجسم وليس يطلق عليه بطريق الحقيقة لفظة (من)، فالفاني ليس ما عليها وما عليها ليس بباق.
المسألة الثالثة : ما الفائدة في بيان أنه تعالى قال : فانٍ؟ نقول : فيه فوائد منها : الحث على العبادة وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة، ومنها : المنع من الوثوق بما يكون للمرء فلا يقول : إذا كان في نعمة إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى اللّه معتمدا على ماله وملكه، ومنها : الأمر بالصبر إن كان في ضر فلا يكفر باللّه معتمدا على أن الأمر ذاهب والضر زائل، ومنها : ترك اتخاذ الغير معبودا والزجر على الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى اللّه تعالى فإن أمرهم إلى الزوال قريب فيبقى القريب منهم عن قريب في ندم عظيم لأنه إن مات قبلهم يلقى اللّه كالعبد الآبق، وإن مات الملك قبله فيبقى بين الخلق وكل أحد ينتقم منه ويتشفى فيه، ويستحي ممن كان يتكبر عليه وإن ماتا جميعا فلقاء اللّه عليه بعد التوفي في غاية الصعوبة، ومنها : حسن التوحيد وترك الشرك الظاهر والخفي جميعا لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد. ثم قال تعالى :
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٧ إلى ٢٨]
وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الوجه يطلق على الذات والمجسم يحمل الوجه على العضو وهو خلاف العقل والنقل أعني القرآن لأن قوله تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص : ٨٨] يدل على أن لا يبقى إلا وجه اللّه تعالى، فعلى القول الحق لا إشكال فيه لأن المعنى لا يبقى غير حقيقة اللّه أو غير ذات اللّه شيء وهو كذلك، وعلى قول المجسم يلزم أن لا تبقى يده التي أثبتها ورجله التي قال بها، لا يقال : فعلى قولكم أيضا يلزم أن لا يبقى علم اللّه ولا قدرة اللّه، لأن الوجه جعلتموه ذاتا، والذات غير الصفات فإذا قلت : كل شيء هالك إلا حقيقة اللّه خرجت الصفات عنها فيكون قولكم نفيا للصفات، نقول : الجواب عنه بالعقل والنقل، أما النقل فذلك أمر يذكر في غير هذا الموضع، وأما العقل فهو أن قول القائل : لم يبق لفلان إلا ثوب يتناول الثوب وما قام به من اللون والطول والعرض، وإذا قال : لم يبق إلا كمه لا يدل على بقاء جيبه وذيله، فكذلك قولنا : يبقى ذات اللّه تعالى يتناول صفاته وإذا قلتم : لا يبقى غير وجهه بمعنى العضو يلزمه أن لا تبقى يده.


الصفحة التالية
Icon